الطيب حاج عطية

كتب الصديق محمد عبد العزيز من بكين ناعياً الدكتور الطيب حاج عطية “من يعيرني أحرفاً أنعي بها أستاذي؟”، وما وجدت مدخلاً أفضل من هذا لأستعيره. تتقاصر الكلمات حين تحاول الكتابة عنه، ولا تعرف من أين تبدأ.
عرفناه للمرة الأولى في دبلوم الإعلام العالي في النصف الثاني من الثمانينات، بعد محاضرتين فقط كنا قد اكتشفنا منجماً لا ينضب، كانت محاضرته هي المنشط الذي لا يغيب ولا يتأخر عنه أحد، ولا يشعر فيها قط بالملل.
إحدى زميلاتنا كانت تشتكي دائماً بأن محاضراته قصيرة، ولم تكن كذلك، كان يأخذ نفس الوقت الذي يأخذه المحاضرون الآخرون، يبدأ بإطار عام للموضوع، ثم يدخلك في عوالمه، ويتجه لنقطة تفصيلية يتبحر فيها بلا نهاية، ثم تنتهي المحاضرة. كان إحساس الجميع أنه أعطانا قطرة من بحر واسع وتركنا في منتصف المتاهة، وكانت فلسفته أن طلاب الدراسات العليا لا يتم تلقينهم، وإنما تعطيهم أول الطريق وتعرفهم على المنهج، ثم تتركهم يبحرون في ما يرغبون.
دارت الأيام.. ودخلت مكتبه بعد عودة من بعثة للدراسات العليا لأسلم عليه، أدخل يده في الدرج ومدّ لي بضعة أوراق وهو يقول: هذا جدول محاضراتك، كانت إجابتي السريعة “أنا صحفي بس، وما بعرف في التدريس؟”. أقنعني بأن مواد الصحافة لا بد أن يدرسها صحفي مارس المهنة، فيربط بين المعرفة الأكاديمية والتجربة العملية. أتاح لي فرصة الاقتراب منه لمدة خمس سنوات، وجاء بزميلنا خالد دهب، ثم استقطب محمد محمود راجي بعد عودته من بعثة أخرى، ثم مرتضى الغالي، كان مكتبه في معهد الدراسات الإضافية؛ هو كعبتنا متى ما جئنا للجامعة، وكانت لراجي حيلة مكررة يلقنها لنا، أفتح الموضوع الذي تريد فيه معلومات إضافية، قل فيه شيئاً، ثم أنصت لما يقوله الطيب حاج عطية. ثم أكرمتني الظروف أن تزوجت من أسرته فصرت جزءاً منها.
تابعناه عن كثب في ورش العمل والندوات والمحاضرات، تتغير العناوين ورؤوس الموضوعات، من الإعلام للقانون للحكم الراشد، ومن تحليل النزاعات وطرق فضها وبناء السلام لمشكلة آبيي والجنوب، وللنزاعات في القرن الأفريقي وكيفية حلها، وفي كل مرة يتحدث الطيب حاج عطية فينصت الناس مدهوشين لسعة المعرفة ورحابة العلم ووضوح الرؤية.
كان عالماً ومعلماً، يقرأ ويبحث طوال الوقت، ولا يبخل على طالب معرفة ولا باحث أكاديمي ولا صحفي، لا تدخل مكتبه إلا وتجد دبلوماسياً أجنبياً جاء ليستعلم عن شيء أو يعرف وجهة نظره، أو باحث في مجال ما يسأل عن مراجع، أو طالب دراسات عليا يطلب عونه في أمر استشكل عليه. وكان كل تكليف منه عبارة عن قلادة شرف، فهي تنم عن ثقة فيك من مرجع يستحق الفخر.
وما من محفل وطني غاب عنه الرجل، ما تأخر عن داعي الوطن متى وأين ما دعاه، كان يهزم المرض والتعب بالحضور المكثف والعمل الجاد بلا شكوى أو تململ من عبء المجهود. أرهق نفسه وقلبه وجسده النحيل حتى تمرد عليه، ورحل بنفس طريقته الهادئة على سريره، وكأنه لا يريد أن يرهق الآخرين.
رحمه الله وأحسن إليه والعزاء لزملائه وأصدقائه وتلامذته المنتشرين في كل مكان.

التيار

تعليق واحد

  1. رحمه الله رحمة واسعه هذا العلم الجبل الاشم هكذا ترحل كنوز السودان بهدوء العلم والمعرفه كما رحلت كنوز اثارنا من حلفا الي النقعه والمصورات وكبوشية مرورا بالبركل ودنقلا والسبب غياب فهم معني الدولة ونبقي هكذا متكلسين تحت ايدي المفلسين من كل شئ رحمه الله رحمة واسعة بقدر ما قدم بهدوء

  2. رحمه الله رحمة واسعه هذا العلم الجبل الاشم هكذا ترحل كنوز السودان بهدوء العلم والمعرفه كما رحلت كنوز اثارنا من حلفا الي النقعه والمصورات وكبوشية مرورا بالبركل ودنقلا والسبب غياب فهم معني الدولة ونبقي هكذا متكلسين تحت ايدي المفلسين من كل شئ رحمه الله رحمة واسعة بقدر ما قدم بهدوء

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..