مقاربة بين نظامي مايو 69م ويونيو 89م في ذكرى انتفاضة مارس/ أبريل 85ماا

شئ من حتي

مقاربة بين نظامي مايو 69م ويونيو 89م في ذكرى انتفاضة مارس/ أبريل 85م

د.صديق تاور كافي

٭ لم يكن الرئيس السوداني المخلوع جعفر نميري مخطئاً عندما اعتبر أن أقرب الأنظمة السودانية لنظامه الذي حكم السودان من مايو 9691م وانتهى بانتفاضة شعبية في مارس/ ابريل 5891م، هو نظام (الانقاذ ؟!) القائم، إذ من الممكن رصد الكثير من الملامح والقواسم المشتركة بين العهدين تجعل قياس المشهد السياسي الماثل بنفس وحدات مسطرة قياس المشهد السياسي المايوي (في سنواته الأخيرة على الأقل) صحيحاً ومنطقياً الى درجة كبيرة.
٭ في العهد المايوي انبنى تنظيم الاتحاد الاشتراكي وهو الحزب الحاكم من خلال السلطة. وكان هو الحزب الآمر الناهي في كل شيء، وهو السكة الوحيدة الموصلة للسلطة وللجاه في أقصر مدة. وبذلك صار الاتحاد الاشتراكي السوداني هو سكة المناصب الرفيعة، والثراء الفاحش، والتحكم في مصائر العباد. وهكذا استشرى الفساد المالي والإداري والمحسوبية والواسطة في مفاصل الدولة، وتميز أنصار الحزب الحاكم بوضعية صفوية واضحة على حساب الشعب الذي يتململ كل بيت فيه من الغلاء وضيق المعيشة وضنك العيش.
ونفس الحالة يمكن ملاحظتها الآن في حزب المؤتمر الوطني الذي انبنى في عهد (الانقاذ؟!) من خلال السلطة، حيث يمثل مثله مثل الاتحاد الاشتراكي الحزب الحاكم والقابض بإقصائية صارخة. ولم يختلف حزب الانقاذيين عن حزب المايويين من حيث الممارسة وإدارة الدولة في كثير. فالحزب هو أقصر البوابات لتسلق المواقع العليا والحساسة في الدولة دون أية معايير ما عدا الولاء، حتى أضحت المهنية والكفاءة والتخصصية عديمة القيمة، وأهينت الخدمة العامة أيما إهانة في هذا العهد بالذات. والاختلاف الوحيد بين الحالة المايوية ومقابلتها الانقاذية هو اتصاف الأخيرة بالعقلية والجهوية في إدارة الدولة، حتى صار من ضمن شروط التقديم للوظائف العامة شرط الهوية القبلية. وفي العهد المايوي كانت هناك حدود مؤسسية لا يمكن تجاوزها مهما كان، أما في الحالة الإنقاذية فالانتساب للمؤتمر الوطني هو شرط أساسي ليس للوزارة فحسب، وإنما لوكيل الوزارة، وادارات الوحدات الكبيرة والهيئات، وحتى إدارة الجامعات وعمادة كلياتها.
٭ في العهد المايوي بدأ ملف الجنوب باتفاقية أديس أبابا 2791م، وانتهى بعودة الحرب مرة أخرى في مايو 3891م وظهور حركة الأنانيا في (الحركة الشعبية لاحقاً).
وتأزم الوضع في الجنوب بسبب سياسات النظام المايوي في إدارة الجنوب، والتراجع عن اتفاق اديس أبابا بتقسيم الإقليم الجنوبي الى ثلاثة اقاليم، والاعتماد على التوازنات القبلية في المؤسسات التشريعية. وتأزم باعتماد النظام على الحل العسكري وسياسة العصا لمن عصا.
وفي العهد الإنقاذي استفحلت الأزمة بالخطاب التصعيدي وإضفاء طابع ثقافي وديني على المشكلة، وتحويلها الى حرب مقدسة وجهاد ومحاربة الصليبية، رغم وجود ما يقارب مليوني مسلم من أبناء جنوب السودان. وفي النهاية انتهى الأمر بالانقاذيين الى التنازل الكامل لحركة التمرد عن الإقليم بأكمله، واتفقت معها على تقاسم البلد وإنسانها. فانفردت الحركة الشعبية بحكم الجنوب (مستقلاً) وانفرد الإنقاذيون بحكم الشمال (منفردين). وقد تجاوز الأخيرون الأولين في أنهم اعتمدوا اتفاقاً للسلام، بتصميم أجنبي أمريكي لم يفعلوا أكثر من أن يبصموا عليه مع التسليم والتعظيم. كما تجاوزوهم أيضاً في التعبير عن توجهات عنصرية وجهوية ضد أبناء الجنوب من أعلى قمة السلطة والحزب، كانت مقززة وكريهة، ولا يمكن أن تصدر عن جماعة تؤمن بالوطن وتدين بقيم الدين الإسلامي السمحة.
٭ في الحالة المايوية بدأ النظام بتوجهات معادية بشكل صارخ للغرب الرأسمالي وسياساته في المنطقة، ومتبنياً للقضايا القومية والاشتراكية وسياسة الاعتماد على الذات، وتحرير فلسطين…. الخ. لينتهي الى ان يكون صديقاً وحليفاً رئيساً للولايات المتحدة في أفريقيا، ويتماهى معها في السياسات الاقتصادية (صندوق النقد والبنك الدولي) وحتى مرحلة التورط في ترحيل اليهود الفلاشا من إثيوبيا إلى دولة الكيان الصهيوني. ورحل نميري بالانتفاضة أثناء آخر زياراته لأمريكا. وفي الحالة الإنقاذية بدأ الأمر بـ (أمريكا وروسيا قد دنا عذابها، ونأكل مما نزرع…) لينتهي الى أن يتحول السودان الى مسرح مفتوح للمبعوثين الامريكيين يصولون ويجولون فيه، وأصبحت الادارة الامريكية هى من يقرر في السياسات والاتفاقيات والحلول وفق رؤيتها هى. وصارت البلاد مسرحا مفتوحاً للقوات الدولية التي توجد بعشرات الالوف، وصار هناك قسم خاص بالمؤسسات الدولية داخل المطار خارج سيطرة الدولة، لتتبخر كل شعارات السيادة الوطنية في الهواء.
٭ في الحالة المايوية تسببت السياسات الاقتصادية للنظام في تعميق حدة الفقر وتوسيع دائرته، وظهور طبقة الرأسمالية الطفيلية المحتمية بالسلطة، وغالبها من منسوبي الحزب الحاكم (الاتحاد الاشتراكي)، وتفشى الفساد وغطت رائحته المكان.. فساد الحاكم والمقربين اليهم والمتنفذين. واستفحش الغلاء وضاقت المعيشة بالناس، وانهارت الكثير من الخدمات العامة.
وكذلك في الحالة الإنقاذية يطحن الناس الغلاء، وتلاشت الطبقة الوسطى، حيث لم يعد هناك سوى طبقة الرأسمالية الطفيلية المتأسلمة من جهة، وعامة الشعب المطحون بالفقر والفاقة من الجهة الأخرى. واستشرى الفساد أكثر من أي عهد مضى، حتى اضطرت (الجماعة) إلى تكوين مفوضية خاصة به، ولم يعد بمقدور حتى المراجع العام أن يفرض قراره المهني الرسمي على كل المؤسسات. ووصل الأمر مستوى أن يتم استرضاء منسوبي الحزب الحاكم بالوزارة أو الولاية أو الوظيفة الرفيعة أو (البندول النافعابي)، وكأنما مؤسسات الدولة هى تركة خاصة بحزب المؤتمر الوطني الحاكم.
٭ وفي الحالة المايوية تم التضييق على الحريات العامة ومصادرتها على مستوى الأحزاب والنقابات، ومحاصرة أى شكل من أشكال الاحتجاجات السلمية أو تعبيراتها الاخرى، فيما عدا المطبلة للحكام وسياساتهم. ونفس الشيء حدث ويحدث في الحالة الانقاذية. واعتمد النظام المايوي بشكل اساسي على القبضة الامنية والاعلام الرسمي في مواجهة الخصوم، وهو نفس ما يحدث أيضاً الآن.
وعندما اشتد الخناق على السلطة في العهد المايوي استخدمت الشريعة الإسلامية قناعاً يضفي قدسية على الحكومة ورموزها، ويعتبر الرئيس نميري أميراً للمؤمنين، بينما يعتبر أى معارض له ولحكمه كافرا وخارجاً عن الملة. وتحولت الشريعة السمحاء الى سيف يرفع في وجه الخصوم السياسيين لنظام لم يتورع عن ممارسات مخالفة للشرع نفسه (نُسب الى النميري قوله في لقاء المكاشفة الشهري بخصوص مضايقات جهاز أمنه للمعارضين لحكمه: نحن ح نتجسس ونتحسس وننط الحيط كمان!!!).
وفي الحالة الإنقاذية حالياً يتشكل نفس المشهد المايوي تقريباً في الأعوام الاخيرة له. ويحتمي أهل (الانقاذ؟!) بالشريعة كورقة سياسية لا أكثر، بينما كثير من سياساتهم تناقض جوهر الشرع القائم على العدل وعفة اللسان واليد، ويُراد لشريعة الإنقاذ أن تكون أداةً لقمع الخصوم ليس إلا.
وفي النهاية فإن المآل الذي وصل إليه النظام المايوي ووفقاً لهذه المقاربات المتعددة، وبما يتكرر مرة أخرى مع رصيفه الإنقاذي.

الصحافة

تعليق واحد

  1. والله يا استاذ مع اختلافى مع الانظمة الدكتتورية ولو جاء بها ولى منزل استغفر الله العظيم لكن لا يوجد نظام اسوء من هذا النظام القبيحالذى يسمى بالانقاذ الوطنى اذ ان نظام نميرى السفاح احسن بالف مرة من الانقاذ هذا العهد الاسود زمان فى عهد السفاح الناس كانوا بدخلوا الوظائف عن طريق الكفاءة وكان التعليم مجانا وكان العلاج مجانا وكانت المدارس والداخليات والسكة حديد تهز وترز وكان النقل المكنيكى وكان السودانى محترم فى اى بلد والان السودانى فى هذا العهد الانقاذى بمسحبية الجزمة وما عندو قيمة ومظلوم داخل وطنة وحقيقة ما فى وطن ذاتو.

  2. لافتة التربية والتعليم وسقوط المضمون

    ميرغني النقي
    [email protected]

    عندما كنا طلاباً بالمرحلة الابتدائية في أواسط الستينات، كان التعليم العام يتكون من ثلاثة مراحل (ابتدائي ? متوسط ? ثانوي) عمر كل مرحلة أربعة سنوات مما يعني أن من وضعوا هذا السلم التعليمي راعوا في ذلك المراحل السنية للطلاب والفصل يينها حيث المرحلة الأولى من السابعة للحادية عشر والثانية من الثانية عشر إلى الخامسة عشر والثالثة من السادسة عشر إلى التاسعة عشر وكلنا يعلم أن أطوار الحياة (الطفولة ? المراهقة ? البلوغ) تتمحور في هذه المراحل كما يعني أيضاً أنهم اهتموا أولاً بالتربية التي وضعت أولاً في المسمى (التربية والتعليم)، كما أن المناهج والدروس تم اختيارها ووضعها بالكيفية التي توفي أكبر قدر يمكن إيفاءه من المطلوب تربية وتعليماً حيث أن للدرس الواحد في معظم المواد أكثر من هدف، كما كان جلها جاذباً ومؤثراً في الطالب سلوكياً ومعرفياً وذلك من أجل ترسيخ الجزء الأول من مسمي التربية والتعليم وتحقيق أكبر قدر من الجزء الثاني منه، وعلى سبيل المثال لم يكن هنالك مقرر أو دروس تسمى التربية الوطنية كما لم تكن هنالك حصص مخصصة للتربية الوطنية وإنما كانت التربية الوطنية تدرس ضمنياً من خلال المناهج والدروس الأخرى كالمطالعة مثلاً، التي كانت كتبها في سنوات المرحلة الابتدائية تشتمل على الكثير من الدروس التي تنبذ الشقاق والكذب والتكاسل وتغرس حب العمل والخير والخصال الحميدة والأخلاق الفاضلة والحس الوطني في النفوس، وكذلك كانت الجغرافيا والتربية الإسلامية التي تخيرت ما يناسب هذه السن من السير والأخبار، وحتى القرآن الكريم والسنة المباركة اللذان لا يأتيهما الباطل من بين يديهما ولا من خلفهما كانت تُنتقى من بينهما الآيات والأحاديث التي في مقدور الطفل استيعابها وفهم ما ترمي إليه بسهولة ويسر والتأثر بها والعمل بمقتضاها كالآيات التي توصي الإنسان بوالديه والأحاديث التي توصي بالجار خيراً وتنهي عن الجلوس على الطرقات والتبول في موارد المياه والظل هذا على سبيل المثال، مما يعني أن من وضعوا تلك المناهج كانوا يرمون إلى تربية الأطفال على أساس من السلوك والأخلاق يجعل منهم نواة لمجتمع الفصيلة، إلى أن جاء نميري وأزلامه بمعول هدمهم الذي لم يترك شيئاً لم يمسه، وهي صفة اتصفت بها النظم العسكرية التي أول همومها إزالة آثار من سبقوها والترسيخ لوجودها بالحق وبالباطل فكان أول ما فعله تغيير السلم التعليمي إلى (ستة ? ثلاثة ? ثلاثة) لتتداخل المراحل السنية ويبدأ معول الهدم في التربية، ثم بعد ذلك تم تغيير معظم المناهج التعليمية وتوجيهها في خط معين يخدم أهدافهم فقط، كما تم استحداث مادة التربية الوطنية ووضع حصص مخصصة لها لتمتلئ كتب المطالعة والتربية الوطنية بدروس من أمثال من خطاب الرئيس القائد في عيد العلم، ومبادئ وأهداف ثورة مايو، وإنجازات الثورة في عيدها الرابع، وغيرها ليصبح التعليم وسيلة لغرس بذرة النفاق والدجل والتملق وتبدأ الأخلاق والحس الوطني في التراجع، وجاءت الإنقاذ بتوجهاتها التي تهدف إلى الترسيخ لسلطانها لتكمل ما بدأته مايو فكانت أن جعلت السلم التعليمي من مرحلتين (ثمانية ? ثلاثة) لتضم مرحلة الأساس طورين من أطوار حياة البشر وتجمع بين ابن السابعة وابن الخامسة عشر والسادس عشر في إناء واحد وكلنا يعلم أن الطفل سريع التأثر والتقليد لغيره وقد يردد ألفاظاً ويقلد حركات لا يعرف معناها، وبالفعل أصبحنا نسمع على ألسنة بعض الأطفال كلمات مثل الجلوكين والعجوز وطنش، وأقل ضرر يمكن أن يلحق به هو أن يرهبه طالب الصف السابع أو الثامن ويستغله في أن يشحذ له سفة أو يناوله سيجارة من زميل آخر، وبهذا الوضع تكون التربية قد سقطت نهائياً من المضمون وأصبحت فقط اسماً على اللافتة، وكذلك فعلت بالتعليم العام والعالي وأقلها كانت عملية التعريب التي وضعت الشهادة الجامعية موضع الشهادة العربية إن لم يكن أصبحت دونها.
    إن معظم ما ألقيناه في قاع الجب مما كنا نقرأه وندرسه في كتب المطالعة وغيرها في المرحلة الابتدائية أصبحنا نشاهده اليوم على قنوات الأطفال الفضائية وذلك بعد أن أحس أخواننا العرب بأهميته في تربية الأطفال فحولوه إلى أعمالٍ درامية وأفلام كرتونية لسهولة تناوله عبر قنوات الأطفال الفضائية والبرامج الخاصة بهم، وقد شاهدت بعيني في أفلام كرتونية حكاية الدجاجة الصغيرة الحمراء (الفول فولي ……)، والنملة والصرصور، ومحمود الكذاب أو عاقبة الكذب (أكلني النمر)، والغراب والثعلب، والنملة الشفوقة، والفأر الأكول والكثير الكثير مما يعني إننا كنا في مقدمة الركب وأصبحنا اليوم في المؤخرة، ومما يؤسف له إنه عندما كانت المجلة هي الوسيلة الأولى لنشر الثقافة كانت أول مجلة خاصة بالأطفال في الوطن العربي هي مجلة الصبيان، والآن عندما أصبحت القنوات الفضائية هي الوسيلة الأولى براكم شايفين.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..