الوطن هو قهوة أمي

عندما تنضح الالسنة والأقلام بدماء الثأرات والخوف تضيع الاوطان
الاوطان كالأرواح تبني بالحب والأمل يا صديقي العزيز

الوطن

أن أحتسي قهوة أمي
أن أعود في المساء
درويش

بداية لا اميل الي السجال والردود علي موضوع واحد مهما كانت قيمته ، قناعتي ان الاصرار الشديد والدفاع المستميت في قضايا المعرفة يخبئ تحته اشياء اخري لا علاقة لها بالمعرفة ، المعرفة هي ان تبسط قولك للناس وهم يميزون فيه الصواب من غيره ، وقناعتي ان الاراء والأفكار كثير الشرح يفسده كما القصائد والرسوم ، ولعل الشيخ الترابي كان يجسد هذا المعني يلقي قوله علي الناس والناس من حوله يصطرعون ويصرخون ، من اللطائف ان العارف بالله الشيخ قريب الله كما تحكي الرواية كان معجب جداً برائعة كرومة يا ليل ابقالي شاهد علي نار شوقي وكان يظن فيها اشيائه هو ، و كرومة كان يذهب بها الي اتجاه اخر يعبر فيها عن اشيائه هو ، وكل يغني علي ليلاه هكذا في تقديري هي المعرفة بلا قيود وبلا احتكار .

هذه المقدمة لا تعني اني سألتزم بها علي المطلق ، فانا وغيري لم نبلغ بعد مقام المعرفة التي نطرحها ونقف علي بعد منها ننظر للناس وهم يصرخون حولها ، فنحن ما زلنا في مقام التلمذة ومقامنا بين الذين يصرخون ويصطرعون ، بداية اقول من بداهة التاريخ ان السودان بلد حديث بمعني حداثة سنه وليس الحداثة بمعناها ومفهومها الواسع ، ولكن هناك افتراض عند البعض ان الاوطان الحديثة لا تملك تاريخاً عريقاً او نضالاً مشتركاً يجعلها نموذجاً وقدوة ، وهذه الفرضية تدحضها تجربة امريكا اقوي دولة في الوجود منذ اكثر من خمسين عاماً ولا زالت ، ولعل السودان اكثر تاريخاً وعراقة من امريكا ، ولا يكتفي هؤلاء بذلك الافتراض بل يتطور الي وهم ان هذا الوطن شكلته نخبة دون اخري وهذه مدرسة في التفكير غارقة في الوهم اللذيذ لا تريد ان تصحو منه ابداً ، والحقيقة ان السودان لم تشكله نخبة واحدة مهما كان عمق حضارتها او ذكائها او مثابرتها ، ولم يشكله حزب واحد مهما كان حجم التضحيات والدماء التي سالت من افراده وعناصره وأتباعه ، ولم تشكله قبيلة واحدة مهما كان تمددها وانتشارها .

السودان تشكل نتيجة لتمازج قبائل وأفكار ومدارس في السياسة والشعر والأدب والاجتماع ، السودان يا صديقي شكله الفونج والعبدلاب قبل اكثر من خمسمائة عام ، والسودان شكله محمد احمد المهدي القادم من ارض الشمال ، والسودان شكله عبدالله التعايشي القادم من غرب السودان ، والسودان شكله علي عبد اللطيف القادم من ارض النوبة ، والسودان شكله ابن الاسماعيلية الزعيم الازهري ، والسودان شكلته طائفة الختمية وطائفة الانصار ، والسودان شكله ابن دارفور علي دينار صاحب المحمل ، والسودان شكله ابن الشرق عثمان دقنة ، والسودان شكله خليل فرح وهو الذي تعلم العربية علي كبره وغرد اجمل قصائد الوطنية عزة في هواك ، وشكله المثقف الكبير جمال محمد احمد ، وهذا التمازج والتشكل كعادة الاشياء لا يخلو من مواقف خائبة ولكن استدعاء مشاهد من التاريخ بمثل هذا الشبق لهذه المواقف الخائبة في وقتها والتي لو عاد التاريخ مجدداً لتنكر لها اصحابها لا يمثل سوي طاقة سالبة وروح متشائمة لا تريد لجروح السودان ان تندمل ، كلما كادت ان تندمل غرزوا فيها سكينهم الصدئة .

يا صديقي ، علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ ابناء الجنوب القديم والحديث يمثلان اليوم اشواق امة في الصمود والدفاع والشجاعة مثلما يمثلها ابن الشمال عبدالرحمن النجومي بل هما يزيدان عليه روح وثابة نظرت الي الوطن بأفق اكثر وعياً يومئذ ، هذا الوعي امتد من نمولي حتي الاسكندرية ، ولعل هذا الوعي يمثل تياراً يري في وحدة وادي النيل مخرج للسودان بجغرافيته الواسعة من ازمات الاستعمار الانجليزي يومها ، ولذلك من السذاجة ان تحاسب قادة اللواء الابيض الذين رحلوا قبل ما يقارب المائة عام بالفقه السياسي الذي يسود عالم اليوم .

الادعاء ان استقلال السودان جاء بارداً بلا دماء وبلا نضالية لا يخلو من مثالية وبوهمية ، وهو ادعاء تاريخي سيطر علي بعض النخب في فترات تاريخية كانت اقل وعياً ، و لا اعتقد ان من الموضوعية اثارته اليوم في عالم يستبشع الدماء حتي في العمليات الجراحية اصبحت لا وجود لها ، عموماً لا اعتقد ان ميراث النضال تشيده الدماء ، مثلما اعتقد ان ميراث الحرية لا تشيده السجون فحسب ، وان كانت الدماء قد سالت انهاراً في السودان ، شلالات الدماء التي سالت في تاريخ السودان اذا كانت تصنع نهضة لصنعت من السودان اقوي نهضة في الوجود ، يا صديقي من يعتقد ان الدماء تورث الفخر والانتشاء فهذا الشعور هو من الاشتهاء الحرام .

كذلك القول ان حسن الترابي اذا فحصناه عند الناس لوجدنا شيئاً مختلفاً ، يا صديقي ، حسن الترابي زعيم سوداني سينصفه التاريخ عندما يكتب بلا ثارات وبلا ضغائن ، هو لم يترك شيئاً عرفه من اسفاره وإطلاعه وتجاربه إلا وقدمه يرجو به الخير لوطنه وأمته ، و ظل يقدم نفسه كقربان علي تجربته ويمارس عليها الماً وجرحاً اكثر مما هو عليها في الحقيقة واكثر مما قدمه خصومه ، وهو لم يدعي انه ملاكاً بلا اخطاء ، عموماً بعض اصحاب الكوميديا السوداء يريدون ان يشكلوا الاشياء علي اشتهاءاتهم الحرام .

كذلك عبد الخالق محجوب ، وأقول لك كما يمزح الناس ان بعض الشر مفيد للخير او كما يقول بودلير ان الحياة بلا شر لا قيمة ولا معني لها ، يا صديقي يتذكر الناس اليوم عبد الخالق بتاريخه وكاريزميته وأفكاره وتصوراته رغم انه رحل قبل اكثر من اربعين سنة ، ولا احد يعرف الخونة سورج وغيره رغم انهم عاشوا بعده عشرات السنوات ولكنهم ماتوا يوم خانوا ، لعلك تعلم شيئاً من المسيحية لا احد ينظر اليها اليوم من بوابة خيانة يهوذا الاسخريوطي وغيره بل كلهم ينظر اليها وينشغل بتعاليم التسامح والتصالح رغم ابتعادهم حتي عن هذه القيم السمحة ، منظار الخيانة ضيق جداً يا صديقي لا احد يرهق نظره بالنظر الي القبائح ويترك الازهار ، ولا احد يمرغ انفه بشم الروائح الكريه ويترك الروائح الطيبة .

الوطن يا صديقي ليس ابكم ولا اصم ، هذه الاغاني والأناشيد والقصائد تعبر عن كبريائه وعن كراماته وعن بطولاته ، هذه الاناشيد والقصائد والذكريات هي الوطن بصوته الرخيم وبملامحه الجميلة ، هذه الالحان والقصائد والرسومات هي ميراث مقدس تري فيها الوطن الذي تحب ، ليس بالخبز وحده يحي الانسان تختصر كثير من الكلمات يا صديقي .

ذكرياتنا وملاحمنا وبطولاتنا لا يعبر عنها محمد عبده رغم ابداعه كل الاماكن تشتهيك ولا تعبر عنها فيروز بصوتها الملائكي فليالي الشتاء عندنا غير ليالي الشتاء في بيروت ، ذكرياتنا وملاحمنا يعبر عنها يا صديقي وردي والفيتوري وسند وابوعركي وعثمان حسين ، هؤلاء ليسوا اصواتاً نشتهيهم عندما نريد الاستجمام والراحة ، اصوات هؤلاء معادلات كيمياء بطعم الوطن مستحيل جداً ان تجدها عند غيرهم مهما كان ابداعهم .

هذا البوست سرقني اسف جداً علي الاطالة كنت اود الاسترسال في كثير من الاشياء ولكني خشيت الملل .

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. و الله أشهد أنك أنعشت روحي و أعطيتني إملا بهكذا منطق يتنائي عن المواجد و الثارات و يعلي قيما سامية أهم من قيم حظوظ أنفسنا التي نلهث للإنتصار لها . فليدفع الجميع بالتي هي أحسن إبتداء و ليتواضعوا علي موثق لا يخلفه أحد و لندع الشعب حرا طليقا بكل أطيافه يختار دون حجر علي رأي أو توجه كائن من كان : الديني , العلماني , الأرواحي , الملحد , عبدة? الشيطان و البقر و الشجر….” نحن أعلم بما يقولون و ماأنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ” … “أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين “….. “ذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ” …كلكم علي ثغرة ….و أكاد أقسم أنكم كلكم تريدون خير السودان و كل يعمل علي شاكلته …لن يستطيع أحد أن يفرض رؤآه علي الشعب أو يأتيه ببرامج مسبقة تفرض عن طريق ثورة أو شرعية ثورية بعد الآن…فذاك باب قد أوصد و إلي الأبد في السودان بإذن الله …فالقوة ستحمي خيار الشعب …فلنترك كلنا الأوهام و التفكير الرغائبي ….و أصبروا و صابروا حتي يأتي أمر الله ..و الذي أرجو أن يكون رفيقا رحيما دون معانفة حمقاء أو دماء…و إلا سيكون سلامنا صبيحتئذ حزينا عالي الكلفة مر الطعم و قد لا تسلم الأمة و مستقبلها من عقابيله كسلام عائلتي ” المونتاقيو و الكابيولت ” في رائعة شكسبير ” روميو و جولييت ” إذ في ختامها نشج الحاكم :

    A gloomy peace this morning with it brings
    The Sun for sorrow will not show his head
    Go hence and have more talks about these sad things
    Some shall be pardoned , and some punished
    For there is no story of more woe
    Than this of Juliet and her Romeo

    سلام قاتم يجلبه هذا الصباح معه
    و الشمس حزنا لن تري رأسها
    إذهبوا و أكثروا الحديث عن عن هذه الأشياء الحزيتة
    البعض سيسامح و البعض سيعاقب
    إذ ليس هنالك قصة أكثر أسي
    من قصة جولييت و روميوها …..( معذرة لعجالة الترجمة )

  2. و الله أشهد أنك أنعشت روحي و أعطيتني إملا بهكذا منطق يتنائي عن المواجد و الثارات و يعلي قيما سامية أهم من قيم حظوظ أنفسنا التي نلهث للإنتصار لها . فليدفع الجميع بالتي هي أحسن إبتداء و ليتواضعوا علي موثق لا يخلفه أحد و لندع الشعب حرا طليقا بكل أطيافه يختار دون حجر علي رأي أو توجه كائن من كان : الديني , العلماني , الأرواحي , الملحد , عبدة? الشيطان و البقر و الشجر….” نحن أعلم بما يقولون و ماأنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ” … “أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين “….. “ذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ” …كلكم علي ثغرة ….و أكاد أقسم أنكم كلكم تريدون خير السودان و كل يعمل علي شاكلته …لن يستطيع أحد أن يفرض رؤآه علي الشعب أو يأتيه ببرامج مسبقة تفرض عن طريق ثورة أو شرعية ثورية بعد الآن…فذاك باب قد أوصد و إلي الأبد في السودان بإذن الله …فالقوة ستحمي خيار الشعب …فلنترك كلنا الأوهام و التفكير الرغائبي ….و أصبروا و صابروا حتي يأتي أمر الله ..و الذي أرجو أن يكون رفيقا رحيما دون معانفة حمقاء أو دماء…و إلا سيكون سلامنا صبيحتئذ حزينا عالي الكلفة مر الطعم و قد لا تسلم الأمة و مستقبلها من عقابيله كسلام عائلتي ” المونتاقيو و الكابيولت ” في رائعة شكسبير ” روميو و جولييت ” إذ في ختامها نشج الحاكم :

    A gloomy peace this morning with it brings
    The Sun for sorrow will not show his head
    Go hence and have more talks about these sad things
    Some shall be pardoned , and some punished
    For there is no story of more woe
    Than this of Juliet and her Romeo

    سلام قاتم يجلبه هذا الصباح معه
    و الشمس حزنا لن تري رأسها
    إذهبوا و أكثروا الحديث عن عن هذه الأشياء الحزيتة
    البعض سيسامح و البعض سيعاقب
    إذ ليس هنالك قصة أكثر أسي
    من قصة جولييت و روميوها …..( معذرة لعجالة الترجمة )

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..