الحاجة جمال والمثقف الثوري: تمر أيام وتتعدى

في عزاء الأستاذ عمار محمد آدم في زوجته، رحمها الله ، لقيت شيخنا ود إبراهيم لأول مرة. وهو اسم في الصلاح ملء سمع بلدة الأراك ونواحيها. وأبعد. وما عرفوني به حتى قلت له:
– كان أمي جمال أحمد حمد إزيرق جاتك . . .
ولم يتركني أكمل سؤالي فقال:
– بلحيل. وقت ليها بيطلع ويكون له شأن. ما شاء الله. سامعبك.
والحكاية أن أمي، وهي شديدة الاعتقاد في آل ود إبراهيم لصلاحهم وقرابتهم وختميتهم الواضحة، أرقها طول غيابي في بطن العمل السري الشيوعي الذي استمر منذ 1973 إلى 1978. وسعت للإطمئنان عليّ من جهتين. جاءتني يوماً وأنا في “الغميلة ديك” بين الشيوعيين بكتاب “الحصن الحصين” من بركة قريبنا سر الفتوح الذي يجمع بين التربية الروحية وإصلاح الدراجات. أظن. واحتفظت به طويلاًً لبركة الكتاب الصغير وبراً بالوالدة وللمسة البروليتاريا عليه.
من جهة أخرى زارت أمي شيخنا ود إبراهيم. ورأيته في المأتم رجلاً “قليَّلاً” تنحدر وجنتاه القديمتان المهذبتان بقوة في حنكين التقيا في زواية حادة. وطوق حيوية وجهه بلياقة الختمية لا مفر. شَبَه خالي المرحوم عطا عبد المولي. والخال مَثَل أمي الأعلى في “كيف تعيش كختمي لا غير”. وبدا لي من لقاء شيخنا أنه طمأن الوالدة على أنني سأخرج من الغميلة وسيكون كل شيء OK.
لم يتطرق شيخنا في حديثنا في بيت البكاء لتعريفه للشيوعيين الذي حفظته أمي عنه وأطلعتني عليه في لقاء لنا في الغميلة الشيوعية. قالت إنها سألته عما يريده الشيوعيون من أمثالي. ويبدو أنني حيرتها وقطعت قلبها. فقال لها إنهم يريدونها “معلقة كدي لا ترتاح ولا تريح”. ولا أعرف تعريفاً للمثقف (والثوري بوجه خاص) أبلغ من تعريف ود شيخنا أو أدق. فقد سبقه الفارابي ليقول إن المثقف ذبابة خيل لا تكف عن اللسع. واستفدت هذا التعريف للفارابي عن المرحوم التجاني الماحي. كما أن أوسع التعريفات عن المثقف شيوعاً في أمريكا هو أنه الذي يزلزل السلطان (سلطان الدولة أو العائلة أو الحزب أو النقابة المهنية وهلمجرا ) بالأسئلة طلباً للحق. فالولاء في مضمار المعرفة هو للمسألة لا للحلول. أليس هذا هو تعريف ود شيخنا الخالق الناطق: عاوزنها معلقة لا ترتاح لا تريح؟
يعجبني في المثقف التقليدي مثل شيخنا الفضل. فمهنتهم هي الاستماع الجليل لما يؤرق “زبائنهم”. يسمعون بلا كلل ولهم عبارة مطمئنة لكل مشتك. وجلال الاستماع فريضة غائبة في المثقف الحديث. فما أن تبدأ بالشكوى لطبيب عن علتك حتى قاطعك بقوله: “افتح خشمك. قول عاع”. يظن أن رواية المرض زائدة لا معنى لها.
لما عدت من غملتي بين الشيوعيين في 1978 وجدت أمي ترتاح إلى إغنيتين. فمتى غنى الراديو من الحقيبة: “ماتقول ضعت من إهمالي أنا عامل الحزم رأسمالي” استمعت ثم رددت هذا المقطع من الإغنية بالذات بعد نهايتها قائلة: “والله صح!”. وكانت إمرأة حازمة ولكن الدنيا ما بتدي حريف. أما الأغنية الثانية فلزيدان وهي “تمر أيام وتتعدى ونقعد نحسب المدة”. وكانت تنبهني للأغنية متى جاءت في الراديو. وبدا لي انها جذلى بعودتي بعد أيام تعدت وحسبت مدتها.
ودعت ود شيخنا ولم اسمعه يدعوني لحضور إنشاد البراق الختمي على روح المرحومة. ونبهني من معي للدعوة. فجلست. وكنت أفكر متى يكون للمثقف الحديث مقبض على طقوس مثل تلك التي تتنزل على يد ود شيخنا عذباً سلسبيلا في يوم حزين؟
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..