جنوب أفريقيا: الانتخابات المحلية

جرت في جنوب أفريقيا مؤخراً الانتخابات المحلية التي أشارت نتائجها لتراجع في شعبية ‏التحالف الحاكم الذي يقوده حزب المؤتمر الوطني وهو الحزب الذي كان بمثابة رأس الرمح ‏في النضال ضد نظام الفصل العنصري. فالبرغم من حصول التحالف على أغلبية الأصوات ‏والمقاعد إلا أنه عجز عن تحقيق نسبة الستين بالمائة من أصوات الناخبين وهي النسبة التي ‏ظل يحققها أو يتجاوزها الحزب في كل انتخابات منذ وصوله للحكم بعد انهيار نظام الفصل ‏العنصري في البلاد. ويبدو أن نسبة الستين بالمائة اكتسبت بعداً رمزياً مهماً لدى قيادة الحزب ‏وعضويته. على الجانب الرمزي أيضاً خسر الحزب الانتخابات في محلية خليج مانديلا التي ‏فاز بها أحد المرشحين البيض من الحزب المعارض المعروف باسم التحالف الديمقراطي ، ‏وذلك بالرغم من أن الغالبية العظمى من الناخبين بالدائرة من السود. وتحمل الدائرة قيمة ‏معنوية عالية بالنسبة للحزب الحاكم وللمواطنين في جنوب أفريقيا بسبب ارتباطها باسم وتاريخ ‏المناضل المعروف نلسون مانديلا الأب الروحي للحركة المناهضة لسياسة الفصل العنصري ‏في البلاد. ‏
يرى المراقبون أن هناك عدة أسباب وراء الأداءالمتراجع للتحالف الحاكم في الانتخابات ‏المحلية ، ويقولون أن ذلك قد يشكل نذيراً بما قد يواجهه التحالف في الانتخابات العامة ‏القادمة إن لم يتم تدارك الأمر. ولعل السبب الأول وراء تراجع شعبية التحالف هو الشروخ ‏التي بدأت تشكل تهديداً لتماسك التحالف المكون من ثلاث أضلاع مهمة على الساحة ‏السياسية في جنوب أفريقيا وهي حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي يعتبر الشريك الأكبر ‏في التحالف ، والحزب الشيوعي وهو من الأحزاب النشطة منذ أيام النضال ضد نظام الفصل ‏العنصري ، بالإضافة للمؤتمر العام لنقابات عمال جنوب أفريقيا الذي يضم 21 نقابة وحوالي ‏‏2 مليون عضواً. تمكنت هذه القوى الثلاث من حكم البلاد بسبب شعبيتها الجارفة خلال حرب ‏التحرير وبصفة خاصة نجاحها في تفكيك النظام العنصري للأقلية البيضاء بأقل الأضرار ‏الممكنة على مستوى التعايش بين مكونات المجتمع المتنافرة. ‏
جاء تكوين التحالف المذكور في نهاية الأربعينات من القرن الماضي بين المؤتمر الوطني ‏والحزب الشيوعي ثم انضم لهما لاحقاً اتحاد نقابات العمال في منتصف الخمسينات. كانت ‏السياسة الاقتصادية التي اعتمدها الرئيس تابو امبيكي في منتصف التسعينات سبباً في تذمر ‏الحزب الشيوعي واتحاد نقابات العمال اللذين استشعرا تهميش المؤتمر الوطني لهما. غير أن ‏جماهير الحزب الشيوعي وعضوية اتحاد العمال ظلوا ، بالرغم من ذلك ، ملتزمين بالتصويت ‏لجانب مرشحي المؤتمر الوطني في كل الانتخابات التي جرت بالبلاد منذ استقلالها ، ولعل ‏تحليل اتجاهات التصويت في الانتخابات الأخيرة التي نحن بصددها قد تظهر بعض التراجع ‏في هذا الالتزام الصارم. ويرى بعض المحللين السياسيين أن البرود الذي يسود علاقات اتحاد ‏نقابات العمال بحزب المؤتمر الوطني يعود ايضا لمذبحة مناجم ماريكانا قبل أربعة والتي راح ‏ضحية لها أربعة وثلاثون من عمال المناجم الذين كانوا يطالبون بزيادة رواتبهم. مما لا شك ‏فيه أن مواقف الناخبين شهدت شيئاً من التحول بعد الأزمة الاقتصادية التي عانت منها البلاد ‏والتي وقع عبئها الأكبر على الطبقات الضعيفة من المجتمع.‏
لم يساعد وصول الرئيس جيكوب زوما للحكم على تجاوز الحساسية التي قامت بين ‏أعضاء التحالف الحاكم. وبالرغم من نضال الرئيس زوما خلال حرب التحرير الطويلة ، إلا ‏أنه يفتقر للكاريزما التي كان يتمتع بها مؤسس الدولة الديمقراطية في جنوب أفريقيا المناضل ‏نيلسون مانديلا. بالإضافة لذلك فإن خضوع الرئيس زوما للتحقيق في إحدى قضايا الفساد ‏الكبرى، وهي القضية المتعلقة باستغلال مبالغ هائلة من أموال الدولة لصيانة منزله الخاص ‏كانت سبباً في المزيد من التراجع في شعبيته وبالتالي شعبية الحزب الحاكم. بالرغم من ‏تصريحات المسؤولين عن جهاز الأمن في الدولة والتي تؤكد أن صرف مبلغ 16 مليون دولار ‏على صيانة منزل الرئيس زوما كانت ضرورية لتوفير التأمين المطلوب لرأس الدولة ، إلا أن ‏ذلك التبرير لم يقنع الجهات العدلية التي حكمت على زوما بإعادة المبالغ المذكورة للخزينة ‏العامة. أكد الرئيس زوما ، كما هو متوقع ، استعداده لإعادة المبلغ إلا أن تهمة الفساد لا ‏زالت تلاحقه ومن المتوقع أن تظل كذلك حتى تقاعده. لا شك أن هذه الأزمة كان لها تأثير ‏واضح على حظوظ الحزب في الانتخابات المحلية الأخيرة ، كما أنه من المتوقع أن تنعكس ‏سلباً على شعبية التحالف الذي يقوده الحزب خلال الانتخابات العامة التي ستجري بعد ثلاث ‏سنوات من الآن. بالإضافة لذلك فإن السياسة الاقتصادية القاسية التي تبناها الرئيس زوما لا ‏تجد تأييداً كبيراً وسط المواطنين وبصفة خاصة بين أفراد الطبقات الفقيرة التي تشكل الجانب ‏الأكبر من مؤيدي الحزب.‏
بالرغم من الخسائر التي مني بها الحزب الحاكم والمكاسب التي حصل عليها حزب ‏التحالف الديمقراطي المعارض في الانتخابات المحلية الأخيرة ، إلا أن الحكومة لا زالت تتمتع ‏بأغلبيتها داخل البرلمان. كما أن شعبية الحزب في الريف لم تتأثر كثيراً وهي ظاهرة ملاحظة ‏بصورة عامة على مستوى القارة الأفريقية. أثبتت التجربة أن الأحزاب التي تقود النضال ضد ‏المستعمر وتتقدم شعوبها نحو تحقيق الاستقلال تتمتع في معظم الدول الأفريقية بشعبية جارفة ‏في الريف على عكس المراكز الحضرية الكبيرة. ، ففي زمبابوي مثلاً لا زال الرئيس روبرت ‏موغابي يعتمد على دعم الريف في الوقت الذي تراجعت فيه شعبيته كثيراً في المدن الكبيرة. ‏ولعل ذلك ينطبق على الدول الأفريقية بصورة عامة إذ أن الحكومات التي وصلت للحكم عن ‏طريق الانقلاب العسكري تجد هي الأخرى دعماً أكبر في الريف حيث يقل الوعي السياسي ‏العام ويكون تأثير الدعاية الحكومية أكبر بكثير مما هو الحال في المراكز الحضرية. من ‏ناحية أخرى ، فإن ارتباط الحزب المعارض في جنوب أفريقيا بالأقلية البيضاء قد يجعل من ‏الصعب عليه الوصول للحكم عبر الوسائل الديمقراطية على الأقل في المستقبل المنظور. ‏لذلك فقد كان من الطبيعي أن تجئ بعض التحليلات الصحفية لنتائج الانتخابات المحلية ‏الأخيرة مرحبة ترحيباً حاراً باختيار عمدة أبيض للمرة الأولى في محلية ذات أغلبية سوداء. ‏تبدي هذه التحليلات تفاؤلاً واضحاً بأن جنوب أفريقيا ربما تكون في طريقها لأن تصبح دولة ‏ديمقراطية ذات تنوع عرقي وثقافي ، غير أن مثل هذا الحديث قد يكون في اعتقادنا سابقاً ‏لأوانه خاصة وأن سياسة الفصل العنصري ونتائجها المأساوية لا زالت ماثلة في الذاكرة ‏الوطنية. ‏
تظل جنوب أفريقيا وبسبب نفوذها الواضح في الجنوب الأفريقي خاصة وعلى مستوى ‏القارة الأفريقية بصفة عامة محط أنظار المراقبين على المستويين الدولي والإقليمي سياسياً ‏كان ذلك أو إعلاميا. فضلاً عن ذلك فقد أوردت أخبار هذا الأسبوع أن جنوب أفريقيا استردت ‏موقعها كأكبر إقتصاد على مستوى القارة وهو الموقع الذي ظلت تنافسها عليه نيجيريا ، كما ‏تعتبر عملتها الوطنية من أقوى العملات على مستوى القارة. ولا شك أن هذه الحقيقة تشكل ‏هي الأخرى سبباً للاهتمام الدولي البالغ بتطورات الأحداث في ذلك البلد ، إذ أن آثار ‏التطورات لا تقتصر على جنوب أفريقيا وحدها ولا على الجانب السياسي فقط بل يمكن أن ‏تكون لها آثار إقليمية ودولية على الساحتين الاقتصادية والسياسية. قد تبدو جنوب أفريقيا ‏بعيدة جغرافياً بالنسبة لموقع بلادنا في شمال القارة ، غير أن أهمية تلك الدولة في المجالين ‏السياسي والإقتصادي على المستويين الإقليمي والدولي يجعل من المحتم علينا أن نتابع ‏التطورات السياسية والاقتصادية فيها بصورة لصيقة بما يخدم مصالح بلادنا.‏

[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..