أحزابنا..الجيش..الشعب و النقد الذاتي
مما لا شك فيه أن الاطلاع علي التأريخ و استلهام ما فيه من عبر بالاضافة لتقدير الموقف الحالي أمر مهم و وطننا العزيز الغالي سائر نحو التغيير قريبا شئنا أم أبينا بمفاوضات أو انهيار الوضع الحالي بثورة جياع أو صوملة لا سمح الله فلنتفاءل خيرا و نقول ان سلم الوطن فلابد من العودة للتأريخ و لا بد من النقد الذاتي و لا بد من الاعتراف بعمق الازمة التي نحن فيها.
قال الرسول الكريم (الكيس من دان نفسه)
التأريخ القريب
بدأ منذ الاستقلال 1956 و من مندوحة القول أن المستعمر لم يكن شرا كله فقد وضعنا علي أولي عتبات الحداثة و العولمة بإدخال اللغة الانجليزية و مبتكرات الحضارة الحديثة آنذاك من مواصلات ووسائل اتصال و تشييد خدمة مدنية قوية بالاضافة للصحة و العلاج ومما يذكر في هذا الشأن ان سنة 1955 أعلن الحاكم العام البريطاني السودان من حلفا الي نمولي دولة خالية من الملاريا, بالاضافة لاقتصاد قوي و كما استفادوا من القبائل في تأسيس الحكم الشعبي المحلي ,خرج المستعمر و الجنيه السوداني أقوي من الاسترليني (كان الاسترليني حوالي 95% من الجنيه السوداني) يا سبحان الله و مما أذكر أيضا ان لم تخني الذاكرة أني قرأت في أحد المواقع أنه كان هناك نائبا في البرلمان اسمه ود أزرق آنذاك نادي بأن السودان لم يك مستعدا للاستقلال و يجب وضعه تحت الوصاية البريطانية لمدة 40 عاما بدءا من 1956 ,الاتجاه نحو الاستقلال كان قويا فأحال الزعيم الازهري الاقتراح للبرلمان حيث لم يصوت مع الاقتراح الا أربع أشخاص و قال ود أزرق قولته المشهورة(الحمدلله الذي جعل في السودان أربعة رجال عقلاء).
النقد الذاتي
استلمت الاحزاب السودانية حكم البلاد و حدثت أشياء كثيرة مذ ذلك الحين ابرزها الانقلابات العسكرية و مشكلة الجنوب الذي كان خنجرا مؤلما في خاصرة الوطن و ضع بذورها المستعمر بقانون المناطق المقفولة و أذكاها مشكلة الهوية و الدين و الجهوية ,لو نظرنا لمشكلة الانقلابات العسكرية بمنظور متجرد فكل الانقلابات العسكرية الناجحة و الفاشلة كان وراءها حزب أو جهة عقائدية , و من استلم الحكم بعد ذلك من العسكريين عاونه تكنوقراط حزبيون هذا شئ لا جدال فيه, فلتعف أحزابنا يعف جيشنا, احزابنا التي نحلم بأن تضع حجر أساس البناء الديمقراطي في السودان و بناء دولة قومية تسع كل التوجهات و تمتص كل احتقان كي يستقر الوطن هي نفسها تعاني من أزمات كبيرة منها أنها تنادي بالديمقراطية و هي نفسها لا تمارسها داخلها, بعض منها ذو آيديولوجيات عابرة للحدود فشلت في موطنها الاصلي و عليها أن تعدل أوضاعها وفقا للمكون المحلي, بعض منها انغمس في الجدل الفكري و السفسطائي الذي لا يحل مشكلة من مشاكل الوطن الملحة,موضوع الدين و الشريعة و مشكلة الجنوب و الهوية الوطنية كانوا نهبا للكيد السياسي و المتاجرة بعواطف الشعب, الشعب لم يعلمه أحد كيف يستفيد من الديمقراطية و مامعني الحرية, الحرية ليست مطلقة و ان تجاوزت حدها صارت خطرا علي الوطن و المواطن,مثقفي السودان انبهروا بكل زيف الحضارة الغربية التي فيها الخير و الشر الا أنهم أرادوا استنساخ تجربة الغرب هنا بكل مافيها و ما عليها رغم أنه من المبكر الحكم علي مآلاتها, بالرغم من أن مفكري الغرب انبروا في تحليل مجتمعاتهم بكل شفافية.
الدين الاسلامي من أهم المكونات الروحية و الثقافية التي قبلها الشعب السوداني الذي اسلم طوعا بمزاج صوفي اجتماعي تكافلي و بروح محافظة مبنية علي الايمان الفطري دون غوص في دقائق الدين من شريعة و فلسفة و اعجاز علمي أو غير علمي, اي محاولة للتقليل من شأن الدين أو استبعاده من حياة الشعب السوداني ستبوء بالخسران المبين لكن يجب تسليح الشعب ضد استغلال هذا الجانب مرة أخري و في ال27 عاما من تجربة الاسلام السياسي وجاء.
قال الامام الشعراوي
لماذا لا انتمي إلي حزب ديني: لأن الإنتماء إلى حزب ديني ليس من ركائز الإسلام ولا يضر اسلامي شيء إن لم أنتم إلى هذا الحزب. … فأنا مسلم قبل أن أعرفكم وأنا مسلم قبل أن تكون حزباً وأنا مسلم بعد زوالكم ولن يزول إسلامي بدونكم لأننا كلنا مسلمون، وليسوا هم وحدهم من أسلموا … لأنني أرفض أن انتمي إلى حزب يستجدي عطفي مستنداً على وازعي الديني قبل أن يخاطب عقلي هو حزب سياسي قبل أن يكون ديناً وهو يمثل الفكر السياسي لأصحابه ولا يمثل المسلمين. لأنني أرفض أن استجدي ديني في صندوق إنتخاب، فديني لا أستجديه من غير خالقي، ويقول : “أتمني أن يصل الدين إلي أهل السياسة.. ولا يصل أهل الدين إلي السياسة” فإن كنتم أهل دين، فلا جدارة لكم بالسياسة وإن كنتم أهل سياسة فمن حقي أن لا اختاركم ولا جناح على ديني
ليس من حق العلمانيين اللادينيين فصل الدين عن حياة الناس بأنه خرافة, الخرافة هي اسم يطلقه الانسان علي ما لا يفهمه, يجب فهم الدين فهما صحيحا و استصحاب مناهج الحداثة المقبولة علميا هذه الايام و ابعاد التطرف و الغلو, و من لا يحب الدين فهو و شأنه لكنه دين الغالبية و حتما ستفصل الديمقراطية في هذا الشأن, العلمانية يجب أن تكون بابعاد رجال الدين عن التدخل فيما لا يخصهم و عدم استخدام الدين في الكيد السياسي.
الفترة السابقة بعد الاستقلال نتج عنها الكثير من الآثار السالبة التي ألقت بظلالها علي حياة الناس و اثرت في طباعهم و قناعاتهم , أمتلات قلوب اتاس بالاحن و الحقد الطبقي نتيجة للظلم الواقع عليهم و صار هناك نوع من السلبية و السبهللية تلحظها في سلوك الناس مع بعضهم و في الشارع و في التعامل مع الجوانب الصحية و النفايات ,انعدم أو كاد الشعور بالوطنية خصوصا عند الشباب و فقد الامل في الاصلاح تماما و صار هم كل سوداني أن يفر من هذا الجحيم المستمر.
عمق الازمة التي نحن فيها:
اقتصاديا قال الجهاز المركزي للإحصاء إن معدل التضخم السنوي ارتفع إلى 16.5% في يوليو الماضي مقارنة بشهر يونيو 14.31% مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية والخدمات. كما أدى نقص العملة الصعبة إلى انخفاض قيمة الجنيه السوداني أمام الدولار في السوق السوداء، إذ وصل سعر العملة الأمريكية إلى حوالى16 جنيها ,الحد الادني للاجور لا يكفي لاكثر من 10% من تكلفة المعيشة , الشعب يعاني بصورة لا مثيل لها و انحدرت كل أنواع الخدمات الي الحضيض, علق عراب اقتصاد الانقاذ حمدي قبل ثلاث أيام أن الوضع مأساوي و بالخارج صار هناك بنك واحد فقط يتعامل مع السودان.
تدهورت الزراعة و الصناعة و ساد الفساد بصورة مرعبة لدرجة أنه صار مؤسسيا لدرجة أن بعض الوزرات و المصالح ترفض دخول المراجع العام اليها و نمت الثروات الطفيلية و هربت الي خارج البلاد و انهمرت ثروات من غسل الاموال الي الداخل و شكل أصحابها مراكز قوي اقتصادية و سياسية ,انهارت القيم و صار قارون في السودان مقدسا لا تعصي له كلمة و يشار اليه بالبنان ,تحطم أنموذج الانسان الصالح القدوة و صار الاخير هو العبيط الذي يضحك عليه الناس, بالنتيجة ارتفعت سن الزواج نتيجة للمشاكل الحياتية و ارتفعت أيضا نسبة الطلاق, ارتفعت نسبة من يعانون من الامراض النفسية وفق احصائيات موثوقة, ناهيك من تفشي الامراض المجتمعية من مخدرات و خلافه.. نخلي الطابق مستور أحسن و الغريب أن الحكومة مجتهدة في منع الاختلاط في المدارس و الجامعات!!!
أمنيا ساد القتال في دارفور و النيل الازرق و جوب كردفان و تسيدت مليشيات الحكومة الموقف في وجه الهيجان بالاطراف, دولة الجنوب الوليدة انفجر الوضع داخلها و صارت تصدر الينا اللاجئين لينضموا الي اخوانهم الاثيوبيين الذين يفوقونهم عددا, كل يومين أو ثلاثة نسمع عن ضبط كمية كبيرة من الاسلحة و الذخائر مهربة الي الخرطوم و نهلل فرحا و الله وحده أعلم كم من شحنة أفلتت من الضبط و دخلت الي العاصمة الضخمة التي تنوء بحوالي 12 مليون من البشر,مدينة ترهلت و فاق عدد سكانها الكتلة الحرجة حتي صارت عاجزة عن الايفاء بمتطلبات سكانها الاساسية الذين فر الذين انضموا اليها حديثامن مناطقهم اما خوفا من قتال أم بحثا عن حياة أفضل , و كنتيجة لقانون العرض و الطلب صار سعر المتر فيها في كثير من مناطقها أغلي من سعر المتر في لندن..نعم و بدون مبالغة.
المفاوضات بين الحكومة و المعارضة تفشل كل مرة لاسباب واهية و كان من يذهبون اليها كل مرة يستنسخون نفس التكتيك و نفس الاخطاء دون أن يحاول أحد فهم لماذا فشلت المفاوضات و كيف يتم انجاحها و هل لدينا زمن قبل أن ينهار السودان.
الغريب أن ساعة انهيار الجنيه مقابل الجنيه سريعة جدا ..تقريبا جنيه كل اسبوعين ثلاثة و كل شئ في السوق يزيد تبعا لذلك حتي نواب البرلمان اشتكوا من الضائقة المعيشية و طالبوا بزيادة مرتباتهم.
بمناسبة ارتفاع الدولار هناك قصة تدلل علي انعدام الوازع الاخلاقي لدينا..حكي أحد الاشخاص في احدي المواقع أنه أراد أن يشتري سلعة من دكان في لندن من بريطانية فوجد نفس السلعة في رفين منفصلين و كل مجموعة بسعر مختلف ..فسالها لماذا هذا؟ قالت هي نفس السلعة لكن سعرها زاد بعد أن اشتريت المجموعة التي تري أما المجموعة الاخري فقد اشتريتها بالسعر القديم.. التجار لدينا لا يفعلون هذا بل يزيدون كل شئ لديهم سواء اشتروه قبل ام بعد..تصورا.
القائمة طويلة ستقتل القارئ مللا لكن الوضع كارثي بكل ما تحمله الكلمة من معني, لا بد من استقرار سياسي و دستوري وأمني و اصلاح الاقتصاد بدرجة معقولة حتي يتوقف الخراب أولا ثم بعدها نفكر فيما سنفعله, اول شئ يجب ارجاع كل قرش نهب من الخزينة العامة أو من مال الشعب أيا كان شكل المال أو أيا كان ناهبه, و لا بد من اصلاح قطاع التعليم و ربطه باحتياجات الامة ,كفانا كليات نظرية, لا بد من مراجعة أصول الفقه الاسلامي الذي تتبعه الامة وسط تلال من التأويلات المضللة و الافكار المنحرفة و…المفروض كثير لكن أولا يجب الدوس علي الفرامل و ايقاف الخراب.
إن لم ننتقد أنفسنا فسنكرر نفس الاخطاء و التأريخ لا يرحم و العالم صار مكانا صعبا هذه الايام فليرحمنا الله.
صلاح فيصل
[email][email protected][/email]