الشيوعى والكفر والايمان(3)

تطرقنا فى المقال السابق الى ان كل بلاوى الشك والالحاد ، ليس فى الدين الاسلامى وحده ، وانما ايضا فيما سبقه من اديان سماوية ، كان بسبب الفهم الخاطئ لمعانى واهداف تلك الاديان . وزعمنا بناء عليه ان كبار الملحدين من امثال ماركس وداروين وحتى برترتند رسل ، لم يكونوا كذلك الا بسبب تلك المفاهيم الخاطئة التى تنشر باسم الدين ، على الرغم ممافيها من عدم المنطق ناهيك عن تناقضها مع مكتشفات ومخترعات العلم . ثم زعمنا ان الفهم الصحيح لمعانى الدين ومراميه لايناقض العقل ولا العلم ، لانهما كما نرى ، آتيان من مصدر واحد .
فى اجمال قد يحتاج الى تفصيل اكثر لاحقا ، قلنا ان صحيح الدين يعنى :
– ان الدين ( الاسلام ) الخاتم جاء الى البشرية جمعاء : ” يايها الناس ” ” يامعشر الانس والجن …” وبهذا فهو ملب لمتطلبات كل البشر على اختلاف اشكالهم والوانهم وظروف معيشتهم فى كل زمان ومكان . ولكى يكون كذلك فهو بالضرورة ان يكون منفتحا على تطورات الكون ، التى اصبحنا نراها فى كل يوم بل وساعة ولحظة . ولايمكن ان يكون ذلك ممكنا الا باستخدام العقل واستباط معان جديدة لنفس النصوص. وليس هذا بكلام جديد ولا غريب . فسيدنا عمر قد فعله بشكل مستمر وبعمق وصل حد المخالفة لظاهر نصوص قرآنية ! وذلك مثل منع الزكاة عن المؤلفة قلوبهم وعدم قطع يد السارق فى عام الرمادة …الخ
– ثانيا ، انه دين العلاقة المباشرة بين الرب والعبد بدون واسطة ايا كانت .دين القلب والضمير .
– وان العباد يحاسبون فرادى ولا تنفع الشفاعة من أحد ولا” تجزى نفس عن نفس شيئا ..”
– وان كل انسان يحاسب على قدر مامنح من عقل ، وحسب قناعاته الشخصية ، لاينجيك القول بانك اتبعت راي فلان الشيخ أو العالم .
– ان الذى لم تبلغه الرسالة بالشكل المقنع له فليس عليه ” وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ..” وبالطبع فبعد الرسول يصبح المبلغ.
اذا كان هذا فهما صحيحا للدين ، ونزعم انه كذلك ، فما أثر ذلك على المسلمين والاسلام ؟
اولاً : لن يكون هناك معنى اوضرورة لوجود الشيوخ ? ذوى النوايا الحسنة منهم او الافاقين . النوع الاول يمكن ان يقتصر وجوده على تبصير الناس بوجهة نظرهم وتفسيراتهم ، وحتى هذه لاتكون ملزمة الا لهم ولمن يقتنع بها من عامة المسلمين . واما النوع الثانى فسينعدم وجوده ، اذ ان قناعة المسلم بالصلة المباشرة مع الرب لن تجعله يلجأ الى طلب العون من احد غيره ، اذ ان ذلك يمثل نوعا من الشرك. ولايبقى بعد ذلك سبب لتدخل الآخرين فى شأنك الا على سببيل ” الامر بالمعروف والنهى عن المنكر” وذلك باسلوب ” وجادلهم بالتى هى أحسن ..”
ثانيا : لاوجود لمتطرفين من امثال جماعة القاعدة وداعش وبوكوحرام ، وذلك لماذكرناه عاليا .فاذا اقتنعنا بان الايمان قرار فردى ” من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ” ، وانه شئ قلبى لايعلمه الا الله وصاحب القلب ، فكيف يكون لكائن من كان ان يجبر كائنا من كان على الصلاة او الصيام او اي من افعال الايمان . واذا حدث ذلك شكلا فما الفائدة ؟ ثم اذا صح مازعمناه من ان مايقول به علماء الدين واصحاب المذاهب هو تفسيرهم ووجهة نظرهم ، التى تختلف من فقيه لآخر ، فكيف يصح لاولئك المتطرفين ان يعتقدوا ان مايفهمونه من النصوص هو فقط الصحيح والذى يجب ان يتبع؟! واليس صحيحا ان اصحاب الافكار والمذاهب يختلفون على اشياء ، والا فماتفسير وجود هذه المذاهب . واليس احد كبار موجدى هذه المذاهب ? الامام الشافعى هو القائل : رايى صواب يحتمل الخطأ ، ورايك خطأ يحتمل الصواب ؟ واليس الامام مالك هو الذى رفض توجيه الخليفة ان يكون موطؤه مرجعا لكل قضايا الدين ، قائلا ان اراءه فى الموطأ ملزمة له ولمن يقتنع بها فحسب ؟ وفى هذه المعانى يقول الامام محمد عبده فى مقدمته لتفسير القرآن:( التفسير الذى نطلبه هو فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس الى مافيه من سعادتهم فى حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة ، فان هذا هو المقصد الاعلى منه ، وماوراء هذا من المباحث تابع له او وسيلة لتحصيله ) . بالاضافة الى قناعته ان تفسير القرآن وفهم وجه الهداية فيه هو التزام انسانى لاينقطع ابدا ، وفى ذلك يقول : (خاطب الله بالقرآن من كان فى زمن التنزيل ، ولم يوجه الخطاب اليهم لخصوصيته فى اشخاصهم , بل لانهم من افراد النوع الانسانى الذى انزل القرآن لهدايته … وفهم هذه المعانى مما يسهل على المؤمن من أى طبقة كان ، ومن أهل أى لغة كانت . ومن الممكن ان يتناول كل أحد من القرآن بقدر مايجذب نفسه الى الخير ويصرفها عن الشر ، فان الله تعالى انزله لهدايتنا ، وهو يعلم منا كل انواع الضعف الذى نحن فيه . وهناك مرتبة تعلو هذه ، وهى من فروض الكفاية ) .
ثالثا : وهذا مهم جدا ، الذين يدعون الحكم باسم الدين والله ، لن يكون هناك مبرر لادعاءاتهم ، وقد ثبت عمليا فشل هذا النهج . السبب الواضح لهذا الفشل هو ان هؤلاء كانوا يعتقدون ان مجرد وصولهم للحكم يعنى تطبيق شرع الله ، ولذلك فهم قد سعوا لتمكين الجماعة فحسب وليس الامة . واتضح ان التزامهم بالمعانى والغايات العليا ” من الطقطوق ولى فوق ” كما يقول مثل شعبنا المعلم . فهم لم يتشربوا هذه المعانى كما فعل عمر بن الخطاب او حفيده عمر بن عبدالعزيز . هؤلاء اهتموا بارساء العدالة بكل معانيها . عمر الذى قال : لو ان بغلة تعثرت فى بلاد الشام فسيسأله الله : لماذا لم يعبد لها الطريق ؟! وجماعتنا الذين عبدوا الطرق بالطريقة “المتعافية ” ثم هل الخريف هلا !! وحفيده الذى أطفأ المصباح عندما خلص من اعمال الدولة . أو على الذى وقف مع خصمه اليهودى واستنكر ان يخاطبه القاضى بكنيته على ان ذلك نوع من التمييز ! اين هذا من كل مااصبحنا نسمع ونرى من هذه الحكومة المحترمة فى قول من اقوال الاستاذ حسين خوجلى !
وبالرغم من هذا البرهان العملى على سقوط الفكرة ، الا انه قد يكون من الاوفق ايضا تجذير الموضوع بقليل من الافكار التى تقدر ان الفكرة لاجذور نظرية لها فى الدين ، بل على العكس تماما اذ ان الربط بين السياسة والدين قد اثر سلبا فى الاتجاهين . وفى هذا يقول الدكتور برهان غليون : ( لقد كان للفصل بين السلطان الروحى والسلطان الزمنى فى حياة البشرية أثر لا يقل عن الفصل بين الروح والجسد كأساس لتحرير العقل ) . وهكذا نرى ان اصل الدين التوحيدى هو عدم الخضوع لأى سلطة زمنية ، وهو قد كان الاصل للاديان التوحيدية السابقة للاسلام ” اليهودية والمسيحية” قبل نكوصها . ولكن يبقى الارتباط بين الدين والحياة فى عمومها ايضا ، اصلا من اصول الدين ، لانه بتهذيبه لاخلاقيات البشر وجعل العلاقات الانسانية فى مقدمة اهتماماته يسعى لجعل الاخاء بين المؤمنين هو أساس هذه العلاقات . اذن فالبداية بفهم صحيح للدين وغاياته ومقاصده النهائية ، لانه من هذا الفهم ستتضح علة ماذهبنا اليه من ان دين الاسلام هو دين الهداية الى الصراط المستقيم فى كل نواحى الحياة، بمافى ذلك السلطة الزمنية ، أى الحكم ، الاانه لايفترض اسلوبا معينا للحكم ، بينما يفترض فيه ان يكون عادلا بين الناس فى هذه الحياة الدنيا فيمكنهم ان يعبدوا الله كيف يرون ويشاؤون ، وترك الحكم فى صحة اختياراتهم او خطأها لله ” … فينبأكم بما كنتم فيه تختلفون “. حيث كل نفس تجادل عن نفسها !
مقالاتك رائعة يا أستاذ و أهلا بالتنوير