دروس من الإضراب!

رُفِع اضراب الأطباء، فأصبح بالإمكان، التعليق عليه كحدث من الماضي. هناك دروس مما حدث. إذا كان النظامي في الجيش والشرطة والأمن، يستطيع بسهولة ساهلة، أن يفتح بلاغاً ضد من يعيقه عن (أداء واجبه) بموجب القانون، فالأطباء أكثر حوجة، لهذا الحق، من أجل وقف الاعتداءات عليهم حتى يقوموا بواجبهم المهني كاملاً.

الأطباء المضربون، غالبيتهم من أبناء الجيل الجديد، الذي تخرّج في عهد الانقاذ. ونحن كجيل عاش الانتفاضة، وبعضنا شارك في كتوبر الأخضر، ننظر بعين التقدير لهذه التجربة. فهذا الجيل الهادر من وراءنا، أدار ملف الإضراب بذكاء وبراعة، ولم يقع في فخاخ التسييس التي نصبت له، من كل ناحية. هذا الجيل، ممثلاً في الأطباء، يستطيع أن يتدبر أمره دون شعارات، ودون أن يتنكّب طريق التقليد. ولئِن عادَ أكتوبر، فإنه لن يعود بهيئته تلك، وإن جاء أبريل، فإنه لن يأتي بطريقة الماضي.. لا الحكومة ستتخذ موقفها النمطي، ولا الأحزاب قد رسمت مسارات للتغيير، والبركة كل البركة، في الشباب. هذا الحدث أكد أن أجيال الغد تدخل دائرة الفعل، دون شعارات خاوية و تنميقات خطابية ، وبيانات مسلوقة وجاهزة.

هذا الشباب صّاحي، إذ لم تفلح محاولات جرجرته إلى اصطراعات تحيد به، عن هدفه الكبير،وهو الإضراب من أجل المواطن. ما يمكن تأكيده كذلك أن الأطباء كانوا كياناً متماسكاً، ضمّ المؤيد والمعارض، وأنهم قاموا بواجبهم الوطني والإنساني أثناء الاضراب، مشددين على أخلاقيات المهنة، و مُدركين أن عدم تعاملهم مع الحوادث، ومع الحالات الحرجة، سيؤدي إلي نتائج كارثية. لهذا خرج الإضراب الذي استمر أسبوعاً، نظيفاً من الخسائر، مثل أي انقلاب ابيض! بعض المستشفيات في ولاية الخرطوم، كانت شبه خاوية طوال أيام الإضراب، فأين المرضى ومرافقيهم، الذين كانوا يتزاحمون على البوابات؟

بعض رواد المايكرفونات أطلقوا الفتاوى، بأن الاضراب حرام، لكن الحكومة ، ولله الحمد “كَتلَتْ الدُّش” في أياديهم، وتفاوضت مباشرة مع لجنة الاطباء المركزية، وتفهّمت مطالبهم، واستجابت لها..هذه هي قوة السلطة.. قوة السلطة دائماً في اتجاهها المباشر نحو حلحلة المشاكل.. لقد حقق الأطباء والحكومة والشعب، مكاسباً عديدة من هذا الإضراب، أهمها توفير بعض أجهزة ومعدات طيبة وأدوية لا غنى عنها داخل المستشفيات. دعونا ننظر إلى النصف الممتلئ من الكوب. تلك المستلزمات خرجت من المخازن، ما يعني أن الرقابة الرسمية، قد ــ أقول قد ــ تتحاشي احتكارها هناك مرّة أخرى.. لنفترض أن جهة ما، ورّطت الحكومة في هذا المأذق، وأن الحكومة ستنظر في الأمر، ففي مناسبات عديدة اعترفت بالفساد، وأعلنت عن مساعيها في مكافحته، و المسيرة طويلة، ولن تتحقق مقاصدها بين يوم وليلة.. علينا أن نمسك الخشب، ففي الخشب، في هذه المرحلة، بعضُ أمل..!

لعل أهم مُخرجات الاضراب، أنه كان تمريناً بين الشباب والحكومة، في الجلوس للتفاوض..هذا البلد، يحتاج فعلاً لهذا التمرين عوضاً عن اندلاق العنف، الذي نرى مآلاته في دول الجوار. لقد كسب الطرفان رهان ثقافة الإحتجاج السلمي، والمطالبة بالحقوق بصورة حضارية، لا عن طريق تحطيم الممتلكات واشعال الحرائق.

ربما يكون هذا الاضراب وقفة لتراجع المعارضة مواقفها، ولتتراجع الحكومة عن بعض بنود صرفها السيادي لتمضي بجدية أكثر في خطة اصلاح الدولة، بتطهير مكاتبها من أولئك الذين، ما زادوها إلا خبالا. إنّ توصل الحكومة إلى اتفاق مع الأطباء، دون الجنوح لتأديبهم، يفتح باب الأمل في أن المستقبل، بأن يشهد السودان نهضة نقابية تخدم فئات العاملين في القطاعين الخاص والعام.. وتحية للأطباء، الذين انتصروا لأهاليهم، وأحيوا الأمل، في صحيح النهار.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..