أوامر إزالة

قبل فترة في إحدى الدراسات العالمية التي تهتم بأحوال المدن، تبوأت الخرطوم مركزاً متقدماً في قائمة العواصم (الأوسخ) في العالم، ولا أعتقد أنّ هناك مجالاً لأن نتّهم تلك الجهة بالتّآمر علينا، فهي حصلت على النتيجة من استطلاع أجرته مع سياح وشخصيات زارت الخرطوم العام الماضي، كما أنه لا يُمكننا أن ننكر تلك الحقيقة، فكل سكان الخرطوم يشهدون على أنّ التردي البيئي وتراكم النفايات الذي تُعاني منه الخرطوم يُؤهِّلها لذلك الموقع وهي شهادة تفوق في السقوط والفشل تمنح لكل القائمين على أمر الخرطوم.
تراكم النفايات والتردي البيئي ليس وحده يُشوِّه الخرطوم، فهناك ما يتعلق بالمباني سكنية كانت أم تجارية، وكذلك استخدام الشارع العام.. سنين طويلة والمواطنون (شغّالين على كيفهم) حتى تعوّدوا على ارتكاب المُخالفات السكنية وأصبحت هي القاعدة لأن ليست هناك جهات رسمية تمنعهم أو تحاسبهم، وبناءً عليه هناك منازل زحفت على الشوارع العامة سواء كان بالتوسع في المباني أو التمدد عبر الحدائق، كما أن الظروف الاقتصادية جعلت الكثيرين يقومون ببناء محال تجارية (أكشاك) أو غيرها في أماكن غير مناسبة، وتحت سمع وبصر المحلية التي تغض الطرف عنها وتكتفي بالجبايات، وظل الأمر على هذا الحال إلى أن عمّت الفوضى الشوارع وأصبحت تلك المُخالفات جُزءاً من القبح الذي يطغى على مظهر العاصمة.
تعوّدت السلطات أياً كانت أن تكتب بالخط الأحمر العريض على كثير من المحال التجارية أو ملحقاتها أو الأكشاك كلمة (ازالة) نظام هي شغالة، ولكنها تنسى الأمر لفترة طويلة ثم تتذكّر فتقوم بإزالة بعض منها ثم تنسى وهكذا، وحتى التي تقوم بإزالتها تتركها انقاضاً في مكانها لزمن طويل، أمّا أصحاب الأكشاك فيبحثون عن مكان آخر هو أيضاً مُخالفة، ولكن المعايش جبّارة وهكذا تمضي الأمور بفوضوية وبذلك تكون السلطات الرسمية قد تسبّبت في مشاكل أدّت إلى مُخالفات أخرى، لاحظوا الأكشاك التي كانت تبيع الجرائد والأدوات المكتبية، كثير منها أُزيل منذ زمن ولكنه ما زال باقياً في مكانه، ولم نسمع يوماً أن السلطات قامت بمعالجة قضايا من تعرّضت أكشاكهم للإزالة وهي الآن تمضى نحو إزالة ما هو أكبر…!
الجهاز التنفيذي لحماية الأراضي بمحلية كرري يقوم هذه الأيام بحملات إزالة لما سَمّاهَا بمُخالفات الأراضي طالت عدداً كبيراً من الكمائن على ضفاف النيل، ومَعروفٌ عن هذه الكمائن أنّها ظلّت مصدر دخل للكثيرين، فهل اهتمت بإيجاد عمل بديل أم أنها تزيل والسلام؟ إذا لم تهتم بإيجاد حلٍّ فهي تتسبب في انتاج مخالفات أكبر وأسوأ ولها أثر أعمق من مجرد تشوهات ومخالفات تؤثر على مظهر العاصمة ليكون أثرها على القيم والأخلاق والسلوك، فهل يمكنها أن تتخيّل كم من المُواطنين سيتعطّلون عن العمل وستحرمهم من العيش الكريم، لأنّ الكمينة الواحدة تشغِّل عدداً كبيراً من الموطنين.
لسنا ضد إزالة المحال التجارية والمشاريع التي تشكل مصدر دخل للمواطنين اذا اتضح أنها مُخالفات تُشوِّه النظام، ولكن قبل ذلك يجب أن تتأكد الحكومة أن إزالتها لا تؤثر على معيشة المُوطنين، خَاصّةً وأنّها من سمحت لهم في البداية وظلوا يلتزمون بجباياتها، عليها أن تجد لهم الحل أولاً
في الوقت الراهن، ليت الحكومة تأمر بإزالة المُخالفات والتشوهات التي أصابت مَعيشة الناس فهي خلف كل التشوُّهات والمُخالفات الأخرى..!
التيار