حتى لا تدعوا العالم يعلمكم كيف تديرون أنفسكم.. أزمات بلادنا استحقت أن نطلق عليها «صنع في السودان»!!

إدريس حسن

قصة المريض الذي يظل يعاود طبيبه عند كل وعكة شاكياً له من ذات العلة التي يعرفها كلاهما تماماً، ودائماً ما تنتهى بأن يعيد الطبيب على مريضه ذات النصائح من تشخيص لظواهر العلة وأسبابها ثم يتبعها بالوصفة الطبية والموجهات التي يظل يكررها على مريضه ــ مثل الامتناع عن التدخين أو إنقاص الوزن.. إلخ ــ هو يعلم تماماً أن مريضه لن يتبعها لكن واجبه المهني يفرض عليه تكرار الحل لأنه لا يملك غيره.. إلى آخر هذا السيناريو الذي لا بد أن يمر به أى إنسان في زماننا هذا.

ويستحضر المرء هذه التجربة المألوفة عند الشروع في تناول حال البلاد العام الذي صار وصفه بالمتدهور والمنهار والمتصدع هو من باب اللطف وتهوين الأمور أملاً في تغليب الخير على الشر، وانتصاراً لدعوة التفاؤل على حساب التشاؤم. لكن المطلوب حقيقة هو الاعتراف بأهمية النظرة الواقعية التي تضع كل الأشياء في حجمها الطبيعي، كما الطبيب المتخصص والأمين الذي لا يمل تكرار تشخيص الداء والدواء لأنه ببساطة لا بديل عنهما! وهكذا نحن أيضاً لا نمل ولن نكل الصدع بأن أصل مشكلة السودان هو خلافات أهله الداخلية وليست أزمات مستوردة من الخارج كما ندعى نحن او نلصقها بالآخرين. والأزمة السودانية تستحق بجدارة أن يكتب عليها «صنع في السودان» وليس في الصين أو امريكا او الشيطان الأكبر أو أية دولة اخرى.

وللتحديد والدقة المهنية نضع الأصبع على العصب الحساس ونقول إن أزمة السودان، بكل جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إنما هي من صنع بنيه وبمحض اختيارهم، والذي هو اختيار لطريق الاختلاف كمنهج ونمط وأسلوب حياة، أدمنته جميع مكونات المجتمع وبكافة أشكالها حتى صار ظاهرة، نعم صارت هناك ظاهرة يهمس بها سياسيو العالم، وكما يتحدث الكُتاب والمحللون عن ظاهرة «الصومّلة» في إشارة لتوافر عناصر الفرقة والشتات بالحروب الأهلية وتتصاعد حتى تصل مرحلة تفتت البلد الواحد عبر الانقسامات والانشطارات المتتالية، متناسين ان كل ذلك على حساب الاستقرار والأمن والتنمية التي تستهدف الخروج من دائرة التخلف التي تقعد بشعوب العالم الثالث وترجع بهم للوراء بعد استقلالهم عن مستعمريهم. ولعله لم يعد من قبيل المبالغة التحدث عن ظاهرة «السودّنة» في إشارة لما آل إليه حال البلاد من تصاعد للحروب الأهلية منذ عام 1983م، والتى بلغت ذروتها في عهد «الإنقاذ» بأن تم تدويل الأزمة السودانية من أزمة داخلية الى مشكلة باتت تؤرق ليس فقط دول المنطقة ولكن الأسرة الدولية كلها، فكانت «الإيقاد» والموائد المستديرة، وأيضاً موائد الطعام «الإغاثات» عبر عواصم العالم، وصار الملف السوداني ملفاً ساخناً يدور على جميع طاولات المفاوضات في أمريكا وأوروبا والدول العربية والإفريقية. والنتيجة كانت «نيفاشا» ذلك اللغز المحير وتلك العملة ذات الوجهين، يقرأها البعض بعين التفاؤل والرضاء والإيجابية والبعض الآخر يرى العكس تماماً بأنها حملت كل سلبيات فترة الخلافات وقننتها دستورياً وأشهدت عليها المجتمع الدولي اعترافاً مباشراً من كل الأطراف بأن حل الخلافات الداخلية إنما يكون عبر الوسطاء الدوليين، وأن خلاف الإخوة لا يحله إلا الأغراب.

المأساة أن «نيفاشا»، تلك الأيقونة السحرية التي كان من المفترض أن تحمل غصن الزيتون لكل الأطراف وتحقق السلام الذي هو مدخل الاستقرار تمهيداً للعودة للحياة الطبيعية بعد طول احتراب ونزيف حاد من كل أطراف الجسد السوداني الذي جرت دماؤه من الملايين من أبنائه، المأساة أن تلك الاتفاقية صارت بكل المقاييس الآن تعتبر مجرد هدنة واستراحة محاربين، تم فصل قواتهما أولاً، ثم قسم بلدهما الواحد ليصبح بلدين، وعندما التقط الجميع الأنفاس بدأوا بدلاً من الحرب الواحدة عدة حروب وعلى أطول جبهة مشتركة في تاريخ المنطقة. والواقع يقول إن الخلافات التي كانت في يوم ما بين الدولة «بغض النظر عن النظام الحاكم منذ أيام الفريق عبود وحتى المشير البشير» وبين مجموعة متمردة حملت السلاح من أجل مطالب محدودة تخص «إقليم» الجنوب، هذه الخلافات تنامت إلى أن أفرخت أجندات معقدة ومتشابكة حملت في طياتها كَّماً هائلاً من الأزمات التي انفلتت عن إطار الدولة الواحدة والإقليم والقارة ذات الهموم المشتركة المتجانسة، وخرجت إلى رحاب أوسع من هموم وأزمات دولية ألحقت بملفات قديمة متجددة على شاكلة الإرهاب الدولي، وانتهاك حقوق الإنسان، والتصفية العرقية والاضطهاد الديني. وليس الملف الاقتصادي ببعيد عن هذا الصفيح الساخن، فالبترول وأهميته الاستراتيجية والمعادن النفيسة ودور المياه المشتركة في دول حوض النيل إلخ، مما قد يشكل أساساً لمزيد من الخلافات بين أهل السودان إذا لم تكن النية سليمة من الأساس.

يوم الجمعة الماضي احتفلت لجنة تأبين الرئيس ملس زيناوي بذكراه بفعالية ضخمة أُقيمت في الساحة الخضراء، وهى المكان الذي صار متعارفاً عليه بأنه يشهد الأحداث الجسام منذ عودة الشريف زين العابدين و «مليونية» استقبال الزعيم التاريخي للحركة الشعبية لجنوب السودان جون قرنق. والرئيس الراحل زيناوي يعتبره الكثيرون صديقاً للسودان أكثر منه صديقاً لنظام الإنقاذ، لأنه ببساطة يعلم أن مشكلات وأزمات السودان إنما تنعكس على بلده بصورة مباشرة والعكس صحيح تماماً. فكان أن نصب من نفسه عراباً لكل المبادرات التي تقوم لحلحلة المشكلات التي تحتاج لوسطاء بين شمال وجنوب السودان. ولعل الدليل الاكثر وضوحاً الآن هو أن المباحثات بين وفدي البلدين «التوأم» تدور اليوم في عاصمة بلاده أديس أبابا لأكثر من مرة.. دون أن يكل أو يمل أحد من الإخوة الإثيوبيين من تكرار انعقاد المفاوضات «السودانية ــ السودانية»، فالقيادة الإثيوبية بحكمتها تعلم تماماً أنه لا مناص من الوصول إلى حل دائم بين الدولتين «الشقيقتين» ليس فقط لكي لا يصدرا مشكلاتهما لدول الجوار وإثيوبيا أولها، ولكن الجميع يدرك أن تاريخ انتهاء انذار مجلس الأمن قد اقترب كثيراً، ففي 22 الجاري لا بد للدولتين من الوصول إلى حلول نهائية وفق حيثيات قرار مجلس الأمن رقم «2046»
وهنا تحضرني واقعة لا تخلو من الطرافة، لكن أساسها الحكمة والخبرة لدى الرئيس الراحل ملس زيناوي، وذلك عندما لخصّ في جملة واحدة، كما الطبيب الذي أشرنا إليه في بداية حديثنا هذا، لخص العلة وشخصها، وأوضح أسباب العلاج في ذات الوقت.

فقد عقد اجتماعاً طارئاً لدول «الإيقاد» في أديس أبابا بين 22 ــ 23 نوفمبر عام 2010م، كان الغرض منه استعادة دور «الإيقاد» في الإشراف على إنفاذ ومتابعة بنود اتفاقية سلام نيفاشا التي وقعت في يناير 2005م، إلا أن جدول بيان التنفيذ ظل قاصراً بعد انفضاض عقد السامرين بعد احتفالات «نيفاشا» رغم أن البلاد كانت تتطلع نحو أخطر منحى في تاريخها الحديث، ألا وهو الاستفتاء على مصير الجنوب في يوليو 2011م. ويومها قال الرئيس زيناوي محذراً الشريكين «السودان ودولة جنوب السودان» إنه إذا اتبع الشريكان سياسة «العين بالعين» حرفياً فإنه سيكون هناك بالضرورة كثير من العميان!! وهي إشارة ذكية أوصلت أهمية وحكمة الخروج عن النمط التقليدي في المفاوضات وتكتيكات الوصول إلى حلول رغم رسوخ المبدأ الرباني بأن العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم. فقد قصد الرئيس مناوي أن القضية تحتاج لإرادة قوية لحلحلة وفق رؤى متطورة وعملية أولها ضرورة جلوس الأطراف إلى بعضهم البعض للوصول إلى حلول وليس لإثبات خطأ الطرف الآخر وكسب الجولة المنعقدة فقط، إذ أن الأمور باتت لا تحتمل التعطيل، خاصة الأثر الاقتصادي السلبي على كلا البلدين.

والمنطق والواقع يقولان إن فتح حوار على مستوى الجبهة الداخلية بين جميع الفرقاء هو ضرورة لازمة، لأن تقوية الجبهة الداخلية بالتوافق على الحد الأدنى من أمهات القضايا هو السند الأعظم والداعم الأساس للسودان وجنوب السودان للتوصل الى حل مرضٍ ومقبول من الجميع. إذن ترتيب الأولويات يحتم على «الإنقاذ» والمعارضة الممثلة في الداخل بالأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني التي ينضوي أغلبها تحت لواء قوى الإجماع الوطني، وأيضاً الحركات المسلحة التي مازالت تحمل السلاح لكنها لم تصل لاتفاق مع النظام الحاكم سواء على مستوى مطالبها الإقليمية وتحديداً في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق ــ رغم اختلاف سقوفات هذه المطالب ــ كل هذه الكيانات المعارضة يجب الاعتراف بها كواقع على الأرض والجلوس إليها بغية الوصول إلى حلول حقيقية، وليس ذراً للرماد على العيون. والحلول المؤقتة ثبت تماماً أن مردودها مضر ويعود بالأمور إلى الوراء متقهقرة بدلاً من الارتقاء نحو تقليص المشكلات بإيجاد حلول دائمة وعملية لها. والمطلوب أن يهزم الجميع أبيات الشعر الشهيرة:

نعيب زماننا والعيب فينا وليس لزماننا عيب سوانا
وقد نهجو الزمان بغير جرم ولو نطق الزمان بنا هجانا.
وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضاً عيانا

افيقوا أيها السودانيون قبل يوم 22 سبتمبر، وحصنوا أنفسكم بحفاظكم على استقلال قراركم، ولا تدعوا العالم يعلمكم كيف تديرون شؤونكم.

الصحافة

تعليق واحد

  1. الفاتح ياجماعة الزول دا مات متين الله يرحمو ياخى كان زول طيب يا السلام ياخى انا لله وانا اليه راجعون

  2. نحن افقنا من زمان ولكن لا ينفع مع كظام قذر شمولي عنصري غير تطبيق القرارت الوارده في البند2046, اللهم عجل بالتطبيق واعم ذلك ب 10 الف من المارينس لقبض هذا الراقص علي اشلاء جثث دارفور واطفال الكراكير. قولوا امين يار العالمين.

  3. شايلين الفاتحة على روح البلد ، هم ديل بالذات الدمروا السودان يقتلوا القتيل ويمشوا فى جنازته

  4. الغريبة شوف البشيلو في الفاتحة – البشير – الترابي – الصادق المهدي – كل واحد مقبل على قبله – وديل هم الذين أوصلوا الوطن لهذا الحال – بحقدهم وحسدهم وكل واحد فيهم عايز يبقى رئيس – وخلاص الشعب جربهم كلهم – يا جماعة ما تشموا وتسيبوا الوطن ده في حالو – الله ينتقم منكم واحد واحد يريح بيكم العباد والناس يا رب .

  5. انا ما قرأت المقال إطلاقا .. لكن الزول اللي في الصورة و لابس جلابية سوداء ده سبّب لي زعل و حرقة شديدة خالص من شكلو كده كسّار تلج كبيييييييييييير .

  6. عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :
    ( إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا ،

    وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين
    فقال تعالى :{ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا } ،
    وقال تعالى :{ يا أيها الذين امنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } ،

    ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء : يا رب ! يا رب !
    ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له ؟).

    رواه مسلم [ رقم : 1015 ] .

    الحديث واضح المعنى. لا أدري لماذا يدخلون تلك الشرزمة الى مساجد المسلمين؟والمسلم من سلم المسلمين من لسانه ويده.ونحن لم نسلم منهم من الناحيتين ، يا رب ارحم ضعفنا يارب نشكو لك ذلنا وهواننا على الحكام يارب انت القوي ونحن الضعفا يارب انت ملاز الستضعبين وناصر المظلومين وإله المستجيرين سألناك ونحن مستجيرين فأجرنا وانصرنا عليهم وانزل بهم مرضاً يشغلهم في انفسهم ويجعل قلوبهم ترق وتعطف على الشعب يا علي يا قدير يا قهار انزل عليهم الداء الفتاك حتى تحن قلوبهم ويراجعون انفسهم ويرجعون للشعب حقوقه وامواله المنهوبة

  7. شيلوا الفاتحة وأقروا السورة
    وأشربوا شاي وناقشوا الكورة
    ولو دايرين المأتم يصبح محو أمية
    وتبقى الونسة معاها قضية
    ممكن نخلق من الكورة سؤال يتسطر في السبورة
    نسيب الكلفة ونسأل دغري مين الأحرف ؟
    سانتو الأسطى ولا … السلطة ؟

  8. اتخيل المركب دا لو غرق البحصل شنو كان السودان ارتاح من ناس كتار غير مرغوب فيهم والقصة انتهت لا صادق ولا ترابي ولا بشير ويقام الماتم في القصر الجمهوري او احسن يكون انتهي العزاء عشان ما يصرفوا قروش تاني غير القروش المسروقة لا بارك الله في من مد يده الي مال حرام ولا بارك الله فينا ان سكتنا عن قول كلمة الحق.انتهي كلامي مع كل احترامي والموت والعار الي كل كوز حرامي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..