مع مَن على القصيدة أن تتحالف لتنتصر؟

مهدي نصير
*الشعر كتلة من التاريخ تحمل كل جيناته من حب وحرب وبطولة وطغيان وهزيمة وانتصار وطموح وخيبة وواقع وخيال ،ولكن في هذه الكتلة ينتصر الإنسان والجمال على الوحش والوردة تنتصر فيها على الدبَّابة.
*القصيدة هذا الكائن الخرافي الذي ما زال يحارب منذ فجر التاريخ بشراسةٍ وعنادٍ وثقةٍ غامضة وهو يدرك مسبقاً أن معركته معركةٌ خاسرة وأن أدواته في هذه المعركة غير متوفِّرة وغير متكافئة وغير ممكنة مع ذلك ما زال يحارب بورده ونايه وأطفاله الصغار ولم يستسلم وما زال يحشد نرجسه الأبيض ويماماته وكماناته البيضاء وأمطاره وصباياه الجميلات وما زال يخسر معاركه معركةً تلو أخرى وما زال يرقص مبتهجاً ويقاتل .
*مع من على القصيدة أن تتحالف لتنتصر؟
*في التاريخ تحالف فاوست مع الشيطان وخسر الرهان وتحالف المتنبي مع السلطة فخسر ومات مهزوماً ومنكسراً وتحالف بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وأمل دنقل وناظم حكمت ونيرودا ومايكوفسكي تحالفوا مع الفقراء والثورة ( بنخبويتهم اللغوية الصارمة والمتعالية ) فانهزموا وبقيت ورودهم تنوح وتبكي في بريَّةٍ باردةٍ جرداء .
*مع من على القصيدة أن تتحالف لتنتصر ؟
*ربَّما كانت المغامرة الكبرى للشِّعر تحالفه غير الواعي بدايةً والواعي لاحقاً مع السرد والنثر والتفاصيل اليوميَّة للحياة وبسطاء الناس، وهذا التحالف على مستوى تاريخ الشِّعر بدأ في الثقافة والشِّعر الغربيين وبدأ يتسلَّل إلى الثقافات الشرقية ومن بينها ثقافتنا العربية، وهذه المغامرة ليست مغامرة شكل وإيقاع وتقنيات وأدوات شعرية بل كانت موقفاً من التاريخ وقطيعة مع هزائمه ونخبويته التي تمظهرت عبر التاريخ بالتحالف مع السلطة والتُّقية التي مارسها كبار شعراء العالم تحت مسميات ايديولوجية باهتة كانت اللغة اللعوبُ والأطر النخبويَّة القابلة بحتمية هزيمة الشِّعر وانتصار الشُّعراء عبر تحالفاتهم اللغويَّة والسلطويَّة غير المقدَّسة هي المحرِّك الحقيقي للقطيعة بين الشِّعر وسرد الحياة اليومي والبسيط والقابل أن يكوِّن فرحاً للتاريخ والقابل أن يكون منتصراً حقيقيَّاً .
مغامرةٌ شاهقة هي البحث عن حليفٍ داخل اللغة يحقِّق للشِّعر بعض الاتزان مع التاريخ وذلك في الدخول في حركته الفعلية واليومية، لا الحركة اللولبية التي تعوَّد أن يدورَ بها ويلعب دور الضحيَّة للتاريخ لا دورَ القائد أو المشارك أو المناضل داخل هذه اللغة ليشكِّلها وينشكَّلَ معها.
*البحث عن الجمال المُغمَّس بالطين اليومي وباللغة اليومية وبالسَّرد الحقيقي المنفلت من أي ضوابط جمالية أفلاطونية والتي سرقت اللغة من الشِّعر وسجنتها في عوالم المُثل غير القابلة للحضور والتحقُّق ورفضت الجمال الحقيقي الممكن التحقُّّّّّّّّّّّّّق ،هنا يبدأ الجدل الهيغلي الحقيقي بين الشِّعر بلغته الإلهية السامية والواقع بلغته وبراكسيس لغته (باستخدام مصطلح غرامشي المذهل) المتحرك بين قطبين فاعلين ونشيطين هما الشِّعر والحياة .
*تآمر التاريخ والسلطة والحكمة على إقصاء الشعر وحبسه في قوالبه التي جعلت منه كائناً خرافيَّاً وبَريَّاً، وعندما كان يقترب هذا الكائن من التاريخ كانت الفلسفات الأخلاقية والأديان ومكوِّنات الشِّعر البريَّة البعيدة عن طين الحياة تتكفَّل بإعادته لمعتقله وسجنه معزَّزاً بدم الضَّحية التي كان يتغذَّى عليها في ابتعاده عن حركة التاريخ وفعلها العشوائي والسردي المنفلت، مرسلاً في الوقتِ ذاته سفيراً مُدجَّناً متآلفاً مع تلك القُوى التي طردنه من التاريخ .
*وربَّما هذا ما يُفسِّر قيام عدد كبير من الشُّعراء الحقيقيين في ثقافتنا لتأكيد هذا التحالف (المقدَّس) بالتوجه للرواية والإبداع بها بحيث تفوَّقوا على الروائيين المحترفين ونقلوا عوالمهم ولغتهم وشِعريَّتهم إلى معتركٍ يقرِّبهم من حليفهم الجديد والقادر والأنقى والأقدر على حملِ أمانتهم، وإلى حاضنة قد يولدُ عبرها الشِّعر كمولود شرعي للتاريخ لا كمولودٍ خرافيٍّ للسَّماء والآلهة القصيَّة.
*وربَّما أيضاً كان هذا التحالف مغامرة الشِّعر وثورته الكبرى للتَّحلُّل من أغلاله وإقصائه والعودة لينغرس من جديد في رحم التاريخ علَّه يستطيع أن يزرع بعض الجمال في هذا التاريخ البائس والمُرعب والفاشل .
*بذور هذا الوعي كانت موجودة عبر التاريخ وعبر التمردات الشعبية والفلكلوريَّة التي كانت تُحاول أن تجد تعويضاً عن هذا الفقد التاريخي والتَّعالي الذي مارسه الشِّعر على الواقع، وهذا ما يدفعني للقول ان بذور الثورات العربية الغاضبة بدأت عندما بدأ الشِّعر في تزاوجه الحقيقي مع الحياة ومع التاريخ وخلعه الثوب الحديديَّ الصارم الذي ألبسته إياه السلطات بكافة أشكالها عبر التاريخ .
الحصن 3-9-2012
القدس العربي