محمد عوض كبلو: رحيل النخل المُثمر

محمد عوض كبلو : رحيل النخل المُثمر

جزءٌ من أَحلامِكَ الثقافية ، تتحققْ حين تلتقيه . هو كرةٌ معرفية مُتحركة. تذهب بك إلى عوالم موسوعية مَكنوزة ، بزحام الشَّك والجدل والدراسات المُقارنة ، تلتقيها فجأة بين يديه. تُصيبك الدهّشة ، فتهتز معارفك المُطمئنة . وتكتشف كم أنت كنت تعيش ” على نيّاتِك” . إن عِبَر الحياة ودروسها الباطنة ، يُلقيها عليك صاحبنا عفو الخاطر . لن تقوى أنت على التَماسُكْ. يُثير المُفكر ” محمد عوض كبلّو ” أسئلة تمتدّ إلى قناعاتكْ اليقينية ، فتُحيل ثوابتها هباءً وسط عاصفة هوجاء. هذا الفيلسوف المُخضرم كان يعتاش بالقراءة . تسري في بدنه مسرى الدم في العروق .. تملّكت منهُ القراءة و الكتابة ، فهام بها حُباً ، حتى رحل وفي ذهنه الوثاب بقية من أثرٍ باقٍ على منْ عرفوه ، ومنْ تتلمذ على يديه . لا تقع عَيناه على كتاب له عِلاقة بمشروع حياته ، إلا التقطه ليقرأه قِراءة المُحِب . قراءة نقدية يستدعي بها كل مخزونه التُراثي من المعرفة . يُعقد المُقارنات بصور مُذهِلة وهو يتطلّع إلى الفهارس والمراجِع التي استند عليها كاتِب السِفر. تختلط عليه الأزمنة والأمكنة برهة ، ثم ينتبه أو ينبهه أحد أمناء المكتبة ، فيعود لحظة إلى ” طيبة ” محبته، حيث واقع الإبداع ويتراجع إلى ضرورات الحياة العادية.

(2)

شغلته قضايا أثارها الفلاسفة منذ تاريخ قديم ، وتوقف كثيراً عند فلاسفة الحضارة اليونانية والرومانية وسبح في التحليلية و الإفلاطونية و السقراطية والبنائية والتفكيكية والحتمية والتاريخية والمادية الجدلية والهيغلية والكانتية والتجريبية والواقعية والعقلانية والبراغماتية والصوفية والفوضوية والوجودية والإنسانية ..الخ .حتى وصل إلى فخ العولمة وتداعيات الانهيارات الكُبرى . وسلطة الإعلام ، التي امتدت إلى المساكن الخاصة ، تدلف للعقول الباطنة ، لتُغيّرها لمصلحة سوق الاستهلاك !.

*

اعتاد ” صاحب المقام ” علىالنظرة النقدية والمقارنات بين المناهج والأفكار .أذكر مرة عام 1975 أن دعت جمعية الفلسفة بكلية الآداب الدكتور لويس عوض ( 1915-1990 ) في قاعة امتحانات جامعة الخرطوم ، وأبرز فيها المُحاضر صمدية المناهج ، مما اضطر الأستاذ ” محمد عوض كبلو ” لوصف جيل المحاضر كله بأنه ” الجيلٌ تعس “، الذي لم يرى خروجاً عن المألوف في ظل الانبهار الحضاري لمناهج المستعمرين .

اعتاد الأستاذ ” محمد عوض كبلو ” النظرة الجدلية ، والدراسات المُقارنة كما أسلفنا . ينتقي مكاناً يُجلِس عليه النظريات ، واحدة إثر أخرى، تشتبك وتأتلف . كان في منتصف سبعينات القرن الماضي له رأي حاد حول التراث الفلسفي للإنسانية . ومشروعه الخاص أكبر من مقدرات الذهن والجسد ، وروحه الطلقة بلا حدود . انعطفت البشرية وتآخت الفنون منذ القرن الماضي مع فلسفة علم الجمال ، وكان سيدنا صاحب هذا الاختصاص الفلسفي.

(3)

أول ما تعرفت عليه كان في سبعينات القرن الماضي . كُنا في مرحلة الطلب وهو أستاذ في شعبة الفلسفة بكلية آداب جامعة الخرطوم . كان شاهداً على لقائنا سِفرٌ مكتوب باللغة الإنكليزية ، أدرج فيه كاتبه فصلاً عن ” فلسفة علم الجمال” . دار حوار معه حول علاقة فن العِمارة وكافة أنواع الفنون التشكيلية بفلسفة علم الجمال . وتحاورنا عن صرامة العلم ومرونة الفن ، وقُدرة المُبدعين على القفز من فوق القوانين لعوالم جديدة ، وهي قصة الإبداع المُنفلت من كل قيد…

(4)

لقد كُنتِ سيدي نبيلاً ، خرجتَ على نواميس المجتمع وقناعات العامّة من الناس . لقد اخترتَ السباحة ضد التيّار . أعملتَ سكين الفِكْر لتشريح الغرائب ، ونبش آثار الفلاسفة الذين مضوا لحال سبيلهم .تَركتَ أنت سُبل كسب العَيش المُعتادة ، وتخَيّرتَ طريقك الذي أحببت . لمثلِكَ ينبغي لخدمة إبداعه أطواف من المُحررين والمُدققين ، ليدونوا الأفكار التي لم تزل تصطرع وأنت تُغادرنا في غيبتِك الكبرى !.

(5)

ستبقى الأرض دون شكْ مزرعةً خصبة لجسد عتقته الدروب الصعبة . ها هي روح أخرى ستبدأ رحلتها من جديد ، وتمتد سلالة هذا السلسبيل العذب في ذواكر كثيرين ، تتنضَّر طيباً يتخثر كالجُمان ، يفوق بسنوات ضوئية ، طيوب أهلنا وهي تلف الجثمان المهيب ، قبل أن يُوارى الثرى .

أوفيت سيدي و تركت عبئاً على الآخرين لتجميع تُراثك المُبعثر . في الزمن الظلامي يتبقى القليل من الأهل والصحبة . لعل صديقنا الذي كلما استوطن عاصمة رمته بالحقيبة كما قال محمود درويش : صديقنا الدكتور صدقي كبلو ، أو ابنتُك أو الفنانة التشكيلية ” كوثر إبراهيم ” يجمعون هذا التُراث.

العزاء لجميع الأهل والصحبة والطلاب والعزاء للوطن خاصة وللإنسانية عامة . اعتادت بلادنا قبر المُفكرين .
فقدٌ جلل ، تزامنت الأرواح صعوداً في ذات الوقت إلى الرحيل عن دُنيانا. محمد عوض كبلو وأخيه كمال .
تمجدتُما .

عبد الله الشقليني
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. لا زال صدي صوتك يتردد في أذني -كلما جنّ الليل – و أنت و والدي يعلوا صوتكما وأنا أُسرع لأستطلع الأمر في فزع فأجدكما تتجادلان في كتاب إستعرته أنت من مكتبة والدي وتُقسم -بشرّفك- أنّك رددته في آخر جمعة زرتنا فيها ويُقسم والدي أنه لا زآل معك ..فأبتسم أنا ضاحكا وأترككم لصراخكم? كنْتُّ طفلا?ماكنت أدرك معني الشرْف? ماكنت أدرك ما فائدة العِراك علي كتاب?
    عندما كبرت كنت أذكْرُ شِجاركما كلما قرأت قول العرب :
    أحمق ُُ من أعار كتابا .. وأحمق منه من رده?

    علمت وقتها أنني كنت الأحمق الوحيد بينكما..

    لا زلت أذكر أنّك و والدي وأنتما تتناولان طعامكما في صمت مهذب تتخلله بعض الاسئلة والأجوبة عن الاسرة دون أن اري شفتاكما تتحركان وكأنكما تتحدثان بحديث مشفّر لا يفك شفراته أحد ..
    (قول لأمك سوي لي كباية شاي) وفي كل مرة علي مدي ثلاثين عاما ونيّف تزورنا فيها كل جمعة ما قطعك منّا إلا مرض او علة ..كانت هذه عبارتك التي تعلن بها إنتهاء زيارتك لنا? ومع آخر رشفة من كوب الشاي ترمي إليّ بصحيفة وأنت توصيني بقراءة هذا المقال ..وتالله والله كنت أقرأه سطرا سطرا?
    لم أسمعك منذ أنّ وعيت تتأفف من الدنيا و صعوبة العيش أو الغلاء أو أن الأسعار زادت أو نقصت … لم أسمعك تنطق مبلغا من المال يحوي صفرا او صفرين حتي?
    وكأنك كنت تنفق من الغيب?
    كنت أنت أزهد من قابلته في الدنيا?
    بسيطا في ملبسك ومأكلك?
    لا زلت أتذكر طريقة أكلك بثلاث اصابع فقط? وأنا صغير كنت أستغرب فيها?
    كبرت و علمت أنها طريقة رسول الله في الاكل?
    ولا زلت لا أجيدها حتي الآن?

    ?..
    عفي الله عنك ميتا ? كما عفوت أنت عنّا أحياء?

    غفر الله لكما بقدر غفرانكم لنا
    ( محمد عوض كبلّو /كمال عوض كبلّو) ..

    (اللهم طيّبنا للموت وطيّبه لنا )

    (كل من عليها فآن ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرآم)

    حاتم صفوت عوض كبلّو – الأحد 29 أكتوبر 2016

  2. لا زال صدي صوتك يتردد في أذني -كلما جنّ الليل – و أنت و والدي يعلوا صوتكما وأنا أُسرع لأستطلع الأمر في فزع فأجدكما تتجادلان في كتاب إستعرته أنت من مكتبة والدي وتُقسم -بشرّفك- أنّك رددته في آخر جمعة زرتنا فيها ويُقسم والدي أنه لا زآل معك ..فأبتسم أنا ضاحكا وأترككم لصراخكم? كنْتُّ طفلا?ماكنت أدرك معني الشرْف? ماكنت أدرك ما فائدة العِراك علي كتاب?
    عندما كبرت كنت أذكْرُ شِجاركما كلما قرأت قول العرب :
    أحمق ُُ من أعار كتابا .. وأحمق منه من رده?

    علمت وقتها أنني كنت الأحمق الوحيد بينكما..

    لا زلت أذكر أنّك و والدي وأنتما تتناولان طعامكما في صمت مهذب تتخلله بعض الاسئلة والأجوبة عن الاسرة دون أن اري شفتاكما تتحركان وكأنكما تتحدثان بحديث مشفّر لا يفك شفراته أحد ..
    (قول لأمك سوي لي كباية شاي) وفي كل مرة علي مدي ثلاثين عاما ونيّف تزورنا فيها كل جمعة ما قطعك منّا إلا مرض او علة ..كانت هذه عبارتك التي تعلن بها إنتهاء زيارتك لنا? ومع آخر رشفة من كوب الشاي ترمي إليّ بصحيفة وأنت توصيني بقراءة هذا المقال ..وتالله والله كنت أقرأه سطرا سطرا?
    لم أسمعك منذ أنّ وعيت تتأفف من الدنيا و صعوبة العيش أو الغلاء أو أن الأسعار زادت أو نقصت … لم أسمعك تنطق مبلغا من المال يحوي صفرا او صفرين حتي?
    وكأنك كنت تنفق من الغيب?
    كنت أنت أزهد من قابلته في الدنيا?
    بسيطا في ملبسك ومأكلك?
    لا زلت أتذكر طريقة أكلك بثلاث اصابع فقط? وأنا صغير كنت أستغرب فيها?
    كبرت و علمت أنها طريقة رسول الله في الاكل?
    ولا زلت لا أجيدها حتي الآن?

    ?..
    عفي الله عنك ميتا ? كما عفوت أنت عنّا أحياء?

    غفر الله لكما بقدر غفرانكم لنا
    ( محمد عوض كبلّو /كمال عوض كبلّو) ..

    (اللهم طيّبنا للموت وطيّبه لنا )

    (كل من عليها فآن ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرآم)

    حاتم صفوت عوض كبلّو – الأحد 29 أكتوبر 2016

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..