الكونغو الديمقراطية: الانحدار نحو الهاوية؟‏

جاء ميلاد الكونغو الديمقراطية (كنشاسا) في أوج الحرب الباردة في ستينات القرن الماضي ، وقد ‏كان غنى البلاد بثرواتها المعدنية والزراعية الهائلة سبباً في جذب انتباه ومطامع القوى العظمى في ذلك ‏الزمان بما فيها بلجيكا الدولة الاستعمارية التي كانت تحكم الكونغو قبل استقلالها في عام 1960. لم ‏تسلم الكونغو كذلك من تكرار الأزمات السياسية التي أدت لمقتل حادي استقلال البلاد المناضل باتريس ‏لوممبا ، وكانت سبباً رئيساً في عدم مقدرة الحكومات المتعاقبة من تحقيق النهضة الاقتصادية المأمولة. ‏كما أن الكونغو شهدت واحدة من أوائل وأشهر حالات التدخل الدولي في دولة أفريقية مستقلة ، وذلك ‏عندما قرر مجلس الأمن في عام 1960 إرسال قوات أممية لتهدئة الأوضاع المضطربة وحفظ السلام ‏في ذلك البلد. كان من ضحايا الأزمة في الكونغو ، كما هو معلوم ، الأمين العام للأمم المتحدة عندئذٍ ‏داغ همرشولد في حادث تحطم طائرة في روديسيا الشمالية بتاريخ 18 سبتمبر 1961. هناك اعتقاد‎ ‎راسخ بأن الحادث كان مدبراً بسبب الدور الذي كان يقوم به الرجل في أزمة الكونغو ، والذي يبدو أن ‏بعض القوى الاستعمارية في ذلك الوقت لم تكن راضية عنه.‏
بالرغم من الهدوء الظاهري الذي تحقق في زائير خلال حكم الرئيس جوزيف موبوتو والذي امتد ‏على مدى 32 عاماً ، إلا أن عوامل عدم الاستقرار كانت تتفاعل تحت السطح مما قاد الرئيس موبوتو ‏للاعتماد على وسائل القمع لتركيز أركان حكمه وقد ساعدته في ذلك أجواء الحرب الباردة التي كانت ‏سائدة في ذلك الوقت. شهدت الكونغو مع انهيار نظام موبوتو في منتصف التسعينات حرباً أهلية ‏وإقليمية شاركت فيها بعض دول الجوار وعلى رأسها يوغندا ورواندا ، وقد كانت تلك الحرب العامل الأهم ‏وراء الإطاحة بنظام موبوتو ، وتولي رولان كابيلا الحكم من بعده. في عام 1998 مرت حرب الكونغو ‏بمنعطف مهم عندما تحولت من حرب أهلية إلى حرب إقليمية بعد أن انضمت لها كل من أنغولا ‏وزمبابوي وناميبيا إلى جانب الحكومة بينما حاولت كل من يوغندا ورواندا وضع قيادات موالية لها على ‏كرسي الحكم في البلاد. استطاعت الحكومة تحت قيادة رولان كابيلا وبدعم من جانب حلفائها رد الهجوم ‏اليوغندي الرواندي وشهدت البلاد بعد ذلك هدوءاً نسبياً تحت نظام تعددي من حيث الشكل. ‏
‏ من الواضح أنه وبالرغم مما تحقق حتى الآن ، إلا أن الكونغو ما زالت تعاني من عدم الاستقرار ‏إذ تشهد البلاد ومنذ العام الماضي أزمة سياسية مستعصية تمثلت في محاولات الرئيس جوزيف كابيلا ، ‏الذي خلف والده على المنصب ، تمديد فترة حكمه خلافاً لما نص عليه الدستور الذي حدد جكم الرئيس ‏بفترتين رئاسيتين من المفترض أن تنتهي بنهاية هذا العام. من الواضح أن الرئيس كابيلا درس ‏الخيارات المطروحة أمامه ومن بينها تعديل الدستور ، غير أنه وجد في النهاية ضالته في الدعوة لتهيئة ‏الأجواء السياسية المناسبة لإجراء الانتخابات الرئاسية القادمة ، بدعوى أن الوقت المتاح غير كافٍ ‏لإكمال سجل الناخبين مما جعل لجنة الانتخابات تتقدم بطلب لتأجيل الانتخابات الرئاسية إلى حين ‏إكمال السجلات الانتخابية. وجد طلب لجنة الانتخابات كما هو متوقع موافقة من المحكمة الدستورية ‏العليا ، مما أكسب موقف الرئيس كابيلا دعماً دستورياً كان في حاجة له. ووضح جلياً لذلك أن فترة حكم ‏الرئيس كابيلا ستمتد حتى عام 2018 إذ أشارت لجنة الانتخابات أنها تحتاج لما يزيد عن العام لإنجاز ‏مهمتها بإكمال سجل الناخبين والتحضير للانتخابات الرئاسية. لم يكن من الصعب على الرئيس كابيلا ‏أن يحصل بعد ذلك على دعم من الاتحاد الأفريقي الذي تبنى اجتماعاً للقوى السياسية الكونغولية في ‏العاصمة الأنجولية لواندا وافق على تأجيل الانتخابات حتى عام 2018. تغيبت عن الاجتماع بعض ‏أحزاب المعارضة وعلى رأسها الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي الذي يعتبر أكبر أحزاب ‏المعارضة على الإطلاق. كان من الطبيعي في ظل هذه الظروف السياسية المضطربة أن يعلن حزب ‏المعارضة الرئيس عن انسحابه من عملية الحوار التي دعى لها الرئيس كابيلا والتي يرى المراقبون أنها ‏محاولة من طرف الرئيس لتحقيق هدفه الخاص بتمديد فترة حكمه. وصف الناطق الرسمي باسم ‏الحكومة الكونغولية انسحاب المعارضة من عملية الحوار بأنه تكتيك تفاوضي لا غير ، إلا أن الأمر ‏يبدو أكثر تعقيداً خاصة وأن فجوة الثقة بين الطرفين تبدو غاية في العمق. بالرغم من قرار المحكمة ‏الدستورية ، ودعم الاتحاد الأفريقي ومجموعة دول الجنوب الأفريقي لموقف الرئيس كابيلا ، ووقوف عدد ‏من الأحزاب الصغيرة إلى جانب الحكومة إلا أن العديد من المراقبين يرون أن الأزمة السياسية في ‏الكونغو الديمقراطية تهدد بانزلاق البلاد من جديد نحو عدم الاستقرار وربما الحرب الأهلية.‏
بدأت التحركات الشعبية الرافضة لنوايا الرئيس كابيلا منذ العام الماضي وتمثلت في المظاهرات ‏التي خرجت عندئذٍ رافضة لقرار الرئيس ، وقد تطورت هذه الاحتجاجات بصورة كبيرة في سبتمبر ‏الماضي وراح ضحية لها عشرات القتلى. وضح أنه بالرغم من أن الرئيس قد تمكن من استقطاب بعض ‏الأحزاب الصغيرة ، إلا أن الحزب المعارض الرئيس وقف في وجهه رافضاً لفكرة التمديد جملة وتفصيلاً ‏، كما تشير بعض استطلاعات الرأي أن شعبية الرئيس كابيلا قد انخفضت بصورة كبيرة إذ أنها لا ‏تتجاوز 8% في الوقت الحالي. ومما يزيد من تعقيد الأمور أن السياسة التي يتبعها الرئيس كابيلا في ‏مواجهة الاضطرابات قد تؤدي للمزيد من عدم الاستقرار في البلاد.اعتمد الرئيس حتىى الآن وبصورة ‏شبه تامة على الشرطة والحرس الجمهوري في مواجهة المواكب المعارضة ، فضلاً عن جهاز الأمن ‏الذي تمت عسكرته بصورة كبيرة. ويرى بعض المراقبين أن ثقة الرئيس في القوات المسلحة تبدو ضعيفة ‏للغاية وأنه يتخوف من أن تنقلب عليه وتعمل على الإطاحة به ، وقد كان تصرف الرئيس مدعاة لإثارة ‏قلق الكثير من المراقبين الذين يتخوفون من اندلاع الحرب الأهلية مرة أخرى في البلاد.‏
ليس غريباً أن تكون ثقة الرئيس في القوات المسلحة بذلك الضعف ، فقد ظهرت هذه القوات ‏للوجود في عام 2002 عند نهاية الحرب الأهلية الثانية وكان الغرض من تكوينها عندئذٍ هو ‏استرضاء الحركات المسلحة المناوئة للحكومة. نالت هذه الحركات ، على حسب نصوص اتفاقية السلام ‏، مناصب عليا في الجيش الكونغولي فانعكس ذلك على التركيبة الغريبة للقوات المسلحة الكونغولية ‏والتي تشير بعض الدراسات إلى أن 65% من أفرادها من أصحاب الرتب العسكرية العليا وهو أمر لا ‏مثيل له في أي دولة بالعالم. يرى العديد من المراقبين أن تكوين الجيش الكونغولي جاء معيباً فالطريقة ‏الغريبة التي اتبعت في تكوينه لم تؤد لاندماج القادمين من الحركات المسلحة في وحدات الجيش ‏بصورة عملية ، مما جعل الكثير من هؤلاء يدينون بالولاء لقياداتهم العسكرية المتمردة في السابق وليس ‏للقيادة العليا للقوات المسلحة. ولعل ذلك يعتبر أحد الأسباب التي جعلت من القوات المسلحة الكونغولية ‏واحداً من أقل الجيوش انضباطاً على مستوى القارة الأفريقية إن لم يكن أقلها على الإطلاق. فضلاً عن ‏ذلك فإن تاريخ الجيش الكونغولي اتسم بالعنف والتمرد فقد جرت تسع محاولات إنقلابية ضد السلطة ‏الشرعية منذ استقلال البلاد في عام 1960. ولعل هذا يعتبر واحداً من الأسباب التي تؤكد مخاوف ‏الكثير من المراقبين الذين يرون أن الأزمة الحالية قد تقود لإنزلاق الكونغو مرة أخرى نحو الحرب ‏الأهلية. ‏
كان من الطبيعي أن تثير هذه التطورات قلق واهتمام المنظمات الدولية والإقليمية بالإضافة للعديد ‏من دول الجوار وغيرها من القوى المؤثرة على مستوى القارة أو على الساحة الدولية ككل. وتأتي على ‏رأس هذه المنظمات التي تتصدر المبادرات في الكونغو منظمة ذات مسمى طويل تشمل عضويتها ‏الواسعة بلادنا وتعرف باسم “إطار السلام والأمن والتعاون في الكونغو الديمقراطية”. عقدت المنظمة ‏اجتماعها السابع على مستوى القمة بالعاصمة الأنجولية “لواندا” الأسبوع الماضي وشارك السودان في ‏الاجتماع بوفد رفيع المستوى برئاسة السيد نائب رئيس الجمهورية. صدر عن القمة بيان مطول حول ‏الأحداث الأخيرة في الكونغو الديمقراطية ، وكما هو متوقع فقد أدان البيان أحداث العنف التي وقعت ‏في سبتمبر الماضي مطالباً كل الأطراف بالعمل نحو حل المشكلة هناك التزاماً بما ورد في الوثيقة ‏المعروفة باسم “إطار السلام والأمن والتعاون” والتي سبق أن أجيزت بواسطة المنظمة ، ووفقاً لبنود ‏دستور البلاد. كما طالب كل الأطراف بالمشاركة في الحوار الوطني والاتفاق على خارطة طريق تقود ‏للانتخابات العامة في البلاد. من الواضح أنه وبالرغم من الجهود التي تبذلها المنظمات الدولية ‏والإقليمية فإن الأحداث في الكونغو لا تتقدم نحو الحل السلمي المرتجى ، وأن الأسابيع والأشهر القليلة ‏القادمة تبدو حاسمة فيما يتصل بتوجه البلاد نحو السلام والاستقرار أو الإنزلاق مرة أخرى في دائرة ‏العنف المفرغة. لا شك أن هذه الاحتمالات جعلت من الكونغو الديمقراطية محط أنظار القوى الإقليمية ‏والدولية ، ولا نشك في أن الجهات المعنية في بلادنا تتابع ما يجري هناك بالاهتمام الذي يستحقه ، ‏فبالرغم من أن بلادنا فقدت حدودها المشتركة مع الكونغو الديمقراطية بذهاب الجنوب في 2011 إلا أن ‏الأهمية الاستراتيجية لهذه الدولة لم تتغير بالنسبة للسودان. ‏
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..