رجل الأمن نازع الأمخاخ

وسط ما بدا عناقيد موز كولومبي أصفر فاخر، على جانبي المظلّة وأمام المنصّة الرئاسية، بدا من المتعذر تماما للناس فهم خطاب الرئيس القرد التلفزيوني، الذي حمل كالمتوقع صفة “مهم”، وفق تلخيص الصحافة اللاحق له، إلى جانب الراديو والتلفاز. وقد حار الشعب قبالة تلك الحناجر المحيطة بذلك الرئيس الجديد، والتي أخذت تقاطع خطابه ذاك، بهتافات التأييد، ما بين جملة وجملة، كما لو أنّها تفهم بالفعل معنى ما يقال، بل وتتفاعل معه، بالصدق والجدية الذين لا يتوافران في العادة إلا لدى مؤمن مات منذ ألف عام أو يزيد، حتى أن صاحب إحدى تلك الحناجر، وكان يدعى باسم “خادم الدولة” لسبب لا يعلمه سوى الشيطان، لم يتملك نفسه في الأثناء، فأخذ يمشي على حين غرة على أربعة، ويهزّ في الهواء الطلق ذيلا وهميا نبت على الأرجح أعلى مؤخرته.
ما دفع لاحقا بتلك الجهات العليا القابعة في الظل في موقع أعلى من موقع الرؤساء أنفسهم والتي لم يستطع أحد من العامة حتى الآن وعلى الرغم من وجود مثل تلك الادعاءات أحيانا التعرّف على ملامح أحد أفرادها بعدُ إلى إضافة مهام جديدة على رجال ونساء الأمن القومي تتلخص ببساطة في إلزام الناس بتعلم لغة القرود في أقصر فترة زمنية ممكنة وغير ممكنة لتسهيل لغة التواصل اليومي مع السادة الرئيس الجديد الذي تم الاعتراف به، عبر استفتاء أقرّه الشعب بنفسه، في أعقاب زوال حكم الرئيس العابر الذي لم يمكث على سدة الحكم سوى نحو الخمس سنوات، أو يزيد قليلا، أو لربما ينقص قليلا. وقد اتخذ الرئيس المعني صفة “العبور” تلك، لا لجهة عدد السنوات القليلة التي قضاها حاكما، بل لطبيعته نفسها كأيقونة أُريد بها منذ البدء الإيحاء بهدف كسب الوقت أن مهمة الرئيس الجديد انتقالية بالأساس، وبالتالي عليه هو شخصيا أن يتهيأ للعمل على تهدئة الانفعال الثوري المتصاعد في أعقاب زوال حكم الرئيس موزّع النكات على “الشعب الطيب” يمنة ويسرة، وليس أكثر، سوى أنّ هذا الرئيس لطموحه القاتل على وجه الدقة فكر داخل دائرته الضيقة جدا في تحويل الأمر برمته إلى “ملكية”.
لم يمر وقت طويل، لما بدأ الناس في الشوارع بالفعل في الحديث بلغة القرود، مثل “سييك سيكور”، وتعني بالعربية “عمت صباحا، يا أخ”، بل كذلك شرع الناس في التطبع بعادات القرود في كل شيء، مما دفع بمجالس البلدية النشطة في أرجاء الوطن إلى زرع أكثر من مليار شجرة لتسهيل عمليات القفز على امتداد الشوارع والسفر من مدينة إلى مدينة، أي على طريقة القرد الشائعة. وإن عمل إجراء مثل ذلك على إزالة أزمة الوقود نهائيا، إلا أنه أوجد أزمة أخرى لا تقل بأسا عنها، وقد تمثلت دائما في استيراد الحكومة لكميات لا تحصى من الموز لتغطية الحاجة الشعبية المتزايدة وقتها إلى هذه السلعة. لكن حسن الماحي الذي لم يعد شأن تلك الأيام يتذكر بكثافةِ ذلك الرعب القديم طفلا كان من عاداته أكل فراشة صفراء بعينه اليسرى، والذي سدت عليه منافذَ روحه الرغبةُ في الانتقام وملاحقة غريمه مستلب “الأمخاخ” ذاك حتى نهاية العالم ومهما تكلف المهمة من ثمن، لم يكتفِ بكل ذلك، وقد أنبت فجأة لنفسه ذيلا يكسو أعلاه زغب بني لامع ظلّ يتراقص لحيرة الناس من خلفه مثل أي ثعبان مشاغب، كي لا يحول أحدهم في الأخير بينه وبين ما بدا له منذ إطلاق سراحه “هدف ومعنى حياة كاملة”، بأي تهمة سخيفة أخرى، مثل تهمة “القصور”، ولا بد، عن “مقتضيات ومتطلبات العهد الجديد”. من هنا، فصاعدا، كما تخبرنا الوقائع، لن يعرف ثانية ومطلقا باسمه القديم ذاك: “حسن الماحي”، بل باسم أقرب ربما لطلاوة إيقاعه إلى سطر منتزع بلطف من سياق عمل شعري، أي باسم “حسن ذيل القرد الماحق”.
في تلك الأيام، كان “حسن ذيل القرد الماحق” يعاني، هناك أعلى كتفيه ورقبته، من حنين الجمجمة الذي لا يُحتمل إلى المخ، وهذا بالضبط ما ظلّ يغذّي فيه رغبة العثور على جلاده الهارب واسترداد ما لديه، وكلما بدا ذلك الجلاد، في متاهة بحث “حسن ذيل القرد الماحق”، كالمجهول محاطا في منعته بغموض الاحتمالات والخوف من الضياع واستحالة الوصول، كلما شعر “حسن ذيل القرد الماحق” أكثر فأكثر، بثقل وطأة الهوان والرثاء الممض على ذاته، فما ظلّ يحزن في الأثناء بأكثر من أي شيء آخر أن تاريخ جلّاده ذاك لم يكن حافلا بالأعمال العظيمة المتوقعة من رجل أمن ينزع أمخاخا بمثل البراعة المتوقعة لجرّاح، من الجذور القاصية لباطن القعر السحيق اللزج لجمجمة. وكان حسن ذيل القرد الماحق يناجي نفسه أحيانا، تفريغا لما يعانيه، وهو يقطع الفيافي والوديان ويشق الغابات ويعبر نهرا وآخر خلال رحلة البحث نفسها عمّا سمم بالموت هواء حياته، قائلا “هذا ما قد يؤول إليه أمر العالم حين يتحكم في مصائره إنسان رخيص، مجرم، لا ضمير له ولا أخلاق، ولم يلامس الحبّ قلبه قطّ. ولا بد أن الله موجود دائما هناك ليوقف مثل تلك المهزلة. فثمة دموع تّراق وثمة دماء مهدرة وثمة مَن يسعى على الأرض بقدمين ويخجل الشيطان بأقدامه المائة من أفعاله تلك. وربما كان عليَّ حقا التنقيب عميقا في ماضي وجودي وكذلك أجدادي الأولين حتى أدرك حقيقة ما أنا عليه الآن، وحقيقة ما أقام أمثال ذلك الجلاد اللعين بيننا”.
كذلك بدا حسن ذيل القرد الماحق مهتما في تلك الفترة من حياته بالتاريخ. وقد درج على تقليب صفحات تلك الكتب القليلة الملازمة له في أثناء بحثه ذاك برأس ذيله المعقوف كذيل سمكة البلطي وعيناه تغوصان عادة عميقا فيما وراء ما تبصرانه. كذلك ولسبب ما وهو يطلب من إدارة سجن العهد الجديد خيطا لتتبع خطى جلّاده الهارب كُشف له عن تاريخ البدايات المبكّرة جدا لذلك الهارب. وقد قيل له وقتها: “باطن البذرة ينطوي، يا مواطن، على الشجرة، فتأمّل؟”. وما فات على حسن ذيل القرد الماحق فهمه في حينه أن السلطة كانت تعينه على ما كانت عليه هي من صور لا على صورتها القائمة، الآن. لا أحد ينتقد تاريخه مثلما تنتقد سلطة غاشمة تاريخها. ولا أحد ينصف خصومه بعد أن يكونوا قد شبعوا موتا مثلما تفعل أجهزة نظام قهريّ. إذ يكون عندها أولئك الخصوم مجرد أيقونات لا ضرر منها تقبع على رفوف التاريخ محفوفة بهالة التسامح الذي يمنحه لها تكريم السلطة، أخيرا.
كان تاريخ رجل الأمن نازع الأمخاخ ذاك يتراكم، في بداياته المبكرة جدا، كمجموعة من الأفعال الصغيرة التافهة، التي أشتهر بها، وعلى وجه الخصوص، وسط مجموعات كبيرة من بين محدودي الدخل. كان يذهب مثلا إلى محل لبيع الأطعمة الرخيصة. يملأ بطنه. يقف لثانية أمام الكاشير. يشهر في وجهه بطاقته، قائلا “أمن قومي”، بالنبرة الحجرية القاطعة نفسها، والتي يفهم منها: “هذا، يا مواطن، أو.. رأسك”. كان عدد لا يستهان به من بين أصحاب تلك المطاعم يسارع بمجرد أن يرى بطاقة رجل الأمن المشهرة، قائلا “سيدي المبجل خذ. فهذا ما تبقى لكم من المبلغ الكبير الذي أنعمتم به علينا للتو”. وكان نازع الأمخاخ وقحا إلى الدرجة التي ينتزع معها النقود الممدودة إليه، قائلا “شكرا على تذكيري، ثم خذ الفكة كبقشيش”. كان يمنح صاحب المطعم هذا أو ذاك في العادة قبضة من هواء. وما كان يصيب الناس حقا بالخرس أن أصحاب تلك المطاعم كانوا يتلقفون قبضات الهواء تلك ويضعونها داخل أدراجهم بحرص من يودع الخزانة شيئا تذكاريا لا يقدر بثمن. وأحيانا، كانت اللعبة تروق لنازع الأمخاخ، رجل الأمن المستجد وقتها، فيتمهل داخل المطعم قليلا، ويبدأ في نفح الزبائن كذلك تلك النقود المصنوعة من الهواء، فكانوا يتداعون إليها، ويتلقفونها كما يتلقف سرب الدجاج كفا من قمح نُثرت من بعد جوع على رؤوسه الصغيرة المتدافعة.
وكما يحدث كثيرا في بلاد مثل بلادنا، أخذ الاهتمام بنازع الأمخاخ ذاك وغيره من جلادي العهد البائد من بين أولئك الذين تمّ تقديمه كأُضحية لتسكين الانفعال الثوري وقتذاك يقل ويبهت، مع تعاقب الأيام والشهور والسنوات، خاصة إزاء تصاعد مد الاغتيالات الشخصية الغامضة، بين صفوف النشطاء السياسيين والذين برزوا في أيام الثورة الأولى تلك كقادة جدد على عاتقهم تقع مهام العبور بالحرية إلى بر الأمان، واختفاء جثثهم جميعا على خلفية تزايد قياسي لعدد تلك المطاعم المتخصصة في تقديم المشويات بأسعار متدنية، وهذا ما أحزن ضحايا نازع الأمخاخ اللذين بدأ معظمهم ينتابه ذلك الشعور العنكبوتي الخانق المعتم للأماكن المهجورة، وقد أخذ الناس ينصرفون تباعا عن عدالة قضيتهم، مفضلين الخلود و”الحياة قصيرة وغالية” إلى حلوى النسيان وما يحمله الحاضر من إثارة، أما حسن ذيل القرد الماحق، فقد كان أثناء كل ذلك بعيدا عن ضجة الاعلام وحبائل الشائعة، وهذا على الأرجح ما أبقى لديه جذوة البحث عن غريمه حيّة، ولم يحاول كغيره من الضحايا التكيف قطّ على العيش بجمجمة مفرّغة. ولما كان البحث عن الغريم يثقل على قلب حسن ذيل القرد الماحق فيتملكه اليأس ويمضّه رهق الحنين إلى زوجته وابنته سماح، يبدأ يخبر نفسه بصوت عال أنّه قام بوضعها في مجرى الأبدية، ما بين مليوني عام وأخرى، وأنّه يحسب نضاله كمقدار حسوة الطائر، حين يتعلق الأمر برواء ظمأ كائن خرافيّ كالحرية تستغرق شربته الواحدة مقدار سريان النهر خلال مائة عام أو يزيد. ومخزون حقده بدا دائما كماء النبع الرمليّ قرب النهر كلما أُخذ منه غرفة زاد وفاض.
[email][email protected][/email]