الفرية القديمة

كتب أستاذنا البروف عبد الله علي إبراهيم مُقدِّمة وافية وبديعة لكتاب أستاذنا الراحل جمال عبد الملك “ابن خلدون”، الذي استعرضناه بالأمس، وكَعَادة عبد الله فقد كَانَت مُقدِّمته قراءة واعية ومبصرة لسيرة ابن خلدون ومسيرته. استوقفتني إشارة عابرة في المُقدِّمة كرّر فيها البروف عبد الله فرية مُتكرِّرة في حق الصحفيين السودانيين، هو ليس مسؤولاً عنها بالتأكيد، لأنّها جاءت على لسان كُتّاب وسياسيين كُثر، بما في ذلك مذكرات ابن خلدون، وعلى لسان السيد الصادق المهدي، حتى صارت وكأنها حقيقة راسخة.
تلك هي موقف الصحفيين السودانيين، وبالذات العاملين في صحيفتي “الصحافة و”الأيام” من قرار إيقاف الصحيفتين وتصفيتهما بعد الانتفاضة، وعودة الاسمين للمالكين القديمين، الأستاذ عبد الرحمن مختار وشركة الأيام بشركائها الثلاثة، بشير مُحمّد سعيد ومحجوب مُحمّد صالح ومحجوب عثمان.
كما هو معروفٌ، فقد تَمّ تأميم الصحف في عام 1972، وتمّ تعويض الملاك، وآلت الملكية للدولة بمسميات مُختلفة، كان آخرها تبعيتها للاتحاد الاشتراكي. وعندما حدثت انتفاضة أبريل 1985 خُضعت البلاد لفترة انتقالية، وكذلك الصحف، وتَمّ إسناد رئاسة تحرير “الصحافة” للأستاذ علي حامد، و”الأيام” للأستاذ محجوب محمد صالح. ومنذ أول يوم تَمّ طرح السؤال حول مَصير هَاتين المُؤسّستين في الفترة الديمقراطية.
فقد قال الأستاذ ابن خلدون في مذكراته: “كان رأي بعض المُحرِّرين أن تعيد الحكومة الانتقالية النظر في التعويضات لأصحاب الصحف على أن تحتفظ بالدور الصحفية القومية تحت إشرافها، كما هو الحال في مصر”. وقد أشار البروف عبد الله في مُقدِّمته لهذه القصة وَعَلّقَ عليها بالقول… ” وعرض، أي ابن خلدون، للخلاف الذي نشب بين إدارات الصحف المُؤمّمة، التي أرادت تفكيك التأميم، والصحفيين الذين أرادوا أن توالي الصحف الصدور تحت رعاية الدولة، وهو صراعٌ يلفتنا لحُسن ظن الصحفيين بالدولة دُون الناشرين المُستثمرين، وكان رأيي أنّ الصحفيين لم يستنكروا التأميم لأنّه أخرجهم من جزافية الخدمة الصحفية في الدور المُستقلة، إلى أمن الأفندية في خدمة الحكومة…. وما كنت أعلم أنّهم استمرأوا هذا الأمن حتى غاب عنهم معنى الحُرية بعد الانتفاضة ضد حاكمٍ مُستبِّدٍ”. انتهى كلام بروف عبد الله.
ليس من الأمانة القول إنه لم تكن هناك وجهة نظر مثل هذه بين بعض الصحفيين والسياسيين، لكن ليس من العدل أيضاً تَعميم هذه الفكرة باعتبار أنّها كانت الفكرة التي يُقدِّمها الصحفيون في مقابل فكرة تفكيك التأميم وإعادة الصحف لمالكيها، صحيحٌ أنّه كان هناك اتجاهٌ يدعو لتفكيك الصحف المُؤمّمة وعودة الاسم لأصحابها، وبحسب رأي ابن خلدون كان هناك من يرى استمرار الصحف القومية تحت رعاية الدولة باعتبارها مُؤسّسات كبيرة وراسخة. لكن مجموعة كبيرة من الصحفيين كان لها رأي ثالث يجمع الحسنيين، يفك قبضة الدولة من الصحف ويضمن استمرارها كمُؤسّسات مهنية كَبيرة تُساهم في إعادة تأسيس الديمقراطية بالبلاد.
هذا الرأي هو ما سنعرض له غداً مع تحديد المجموعة التي كانت تطرحه.
الفرية القديمة (2-2)
فيصل محمد صالح
نواصل الحديث عن موقف الصحفيين السودانيين من سؤال مصير صحيفتي “الصحافة” و”الأيام” بعد الانتفاضة، وهل تواصل الصدور بشكل أو بآخر، أو يتم تفكيكها وعودة الأسماء إلى ملاكها القدامى، لكن يحتاج هذا الأمر إلى خلفية عن الأحداث التي جرت، والمجموعات التي ساهمت فيها، ونهدف من هذا إلى فك الالتباس، وفضح فرية قديمة متكررة رددها سياسيون وكتاب حتى صارت- كما قلنا أمس- حقيقة راسخة.
كانت نقابة الصحفيين محلولة بعد انتخابات عام 1983، التي فازت فيها قائمة المعارضة على القائمة المدعومة من الحكومة، فقرر إسماعيل حاج موسى وزير الإعلام- وقتها- حل النقابة بعد يوم واحد من إعلان النتيجة، عندما بدأت إرهاصات الانتفاضة تحركت مجموعات من الصحفيين للمشاركة في العمل الذي يجري، وكنا كلنا من القادمين الجدد من الجامعات، وبعضنا لم يتم تعيينه بعد، واخترنا اسم “التجمع الوطني للصحفيين السودانيين”؛ ليكون مظلة تجمعنا؛ لغياب النقابة، وكان التجمع يضم صحفيين من الجريدتين، وووكالة “سونا”، وكنا ننسق مع ما تبقى من أعضاء النقابة المحلولة، عمر عبد التام، ويوسف الشنبلي، وحيدر طه.
بعد الانتفاضة عادت النقابة الشرعية إلى العمل، وعرض علينا قادتها العمل معهم بشكل جماعي إلى حين إجراء انتخابات جديدة- وفعلا- صرنا جزءا من عمل النقابة حتى اكتملت عضويتها، وتمت الانتخابات بعد عامين، خلال هذه الفترة تداولنا في مصير الصحيفتين، وتدارسنا الخيارين المطروحين، ثم طرحنا خيارا ثالثا هو تحويل الصحيفتين إلى شركات مساهمة عامة، يساهم الصحفيون والعاملون بمستحقات خدمتهم، ويتم طرح بقية الأسهم للاستكتاب العام المقيد، وقد قمنا بإعداد دراسة تفصيلية عن هذا المقترح أشركنا فيها نقابات العمال والموظفين.
كان رأينا أن المرحلة الجديدة تتطلب صحافة مهنية راسخة تسهم في تأسيس المرحلة الجديدة، وكنا نعلم أنه ستصدر صحف جديدة مستقلة وحزبية لكنها ستبدأ من الصفر، ومن مصلحتها ومصلحة الاستقرار في البلاد أن تكون المؤسسات القديمة موجودة بتقاليدها وأصولها، وكان هناك من يقول لكن هذه صحافة مايو؟، وكنا نرد أن مايو لم يكن نظاما عقائديا، ولم يكن له في الصحف إلا قيادات التحرير، أما قاعدة الصحفيين فمعظمهم صحفيون مهنيون لا تربطهم بمايو رابطة سياسية أو غيرها، وكنا نعلم أن الجبهة الإسلامية القومية- وحدها- هي التي تملك المال والكوادر لإصدار صحف، وهذا ما حدث بعد ذلك، وأدى إلى تخريب التجربة الديمقراطية، ووأدها والتمهيد للانقلاب.
وقد رفعنا تصوراتنا ودراستنا هذه إلى كل من يهمه الأمر في البلاد، ووصلت إلى كل الجهات، لكن كان يتم تغييبها وتجاهلها بشكل غريب، وكلما سأل أحد المسؤولين عن لماذا تم تفكيك المؤسستين كان الرد أننا التزمنا بأصول الديمقراطية التي لا تجيز ملكية الدولة للصحف، قال ذلك السيد الصادق المهدي أكثر من مرة، ورددت عليه أكثر من مرة متسائلا عن لماذا تم استبعاد الخيار الثالث الأكثر معقولية.
وقد سألت المرحوم محمد توفيق وزير الإعلام في العهد الديمقراطي فترة وجوده في القاهرة في التسعينيات فردّ بأنهم كانوا يظنون أن هاتين الصحيفتين وكر لليساريين الذين يريدون استمرارها؛ لأن اليسار لن يستطيع إصدار صحف، بينما القوى الأخرى، ومنها الاتحادي، وحزب الأمة، وغيرها قادرة على إصدار صحف استنادا على تجربتها السابقة، بالتأكيد لم تصب تصورات حكومة الحزبين حتى وقعت الواقعة.
التيار
أذن هو التشاكس الحزبى التاريخى الذى يقعد ببلادنا و يلغى كل أفكار و رؤى التجديد..هو التوجس بين الأحزاب- أو بالأحرى قادتها- ذاته الذى عطل مسيرة النمو السياسى نحو دولة راشدة…..و يهمش الرأى الفنى و المهنى الرصين..لصالح توجسات و تخرسات من يجلسون على سدة الأحزاب..إلى حين إشعار أخر…
أذن هو التشاكس الحزبى التاريخى الذى يقعد ببلادنا و يلغى كل أفكار و رؤى التجديد..هو التوجس بين الأحزاب- أو بالأحرى قادتها- ذاته الذى عطل مسيرة النمو السياسى نحو دولة راشدة…..و يهمش الرأى الفنى و المهنى الرصين..لصالح توجسات و تخرسات من يجلسون على سدة الأحزاب..إلى حين إشعار أخر…