رياك مشار : مابين نبوءة نقودينق ونبوءة السقا (الاخيرة)..

منذ الاستقلال في عام 1956م .. إعتبرت النخب الشمالية الحاكمة أن مجرد الحديث عن الانفصال في حد ذاته جريمة لا تغتفر .. وإنصرف الوضع بالتالي إلى النبوءة خاصة في الشق الذي يتحدث عن الانفصال .. لذا خمدت وأنزوت وتلاشت .. ثم ظهرت الفقاعة في العام 2009 م عندما عادت العصا المقدسة بطائرة خاصة ..
كان النبوءة نائمة .. من أيقظها؟.. من أعطاها الزخم والرواج و(الهيلمانة) ؟ .. من نفض الغبار وازال العوالق والشوائب ؟ إنه فرج السقا بلاشك .. هو الذي سطا على القيادة سطوا وأتخذ النبوءة مطية وسُلما (أما فرج السقا فلا يعلم أحد من أين جاء أسلافه لكنه رجل ملهم وذكي أدرك أن ما يوحد الناس هو رابط الدم ولانه يقرأ كثيرا نبش إسطورة الاحفاد وإختلق قصة جده قمبوس وبقية الحكاية التى تعرف )..
على النطاق الشخصي لم أسمع عن النبوءة على الاطلاق طوال فترة وجودي في مدينة جوبا إلا عند محكمة سلطان اندريا فرج الله ..
كانت النبوءة مجهولة وحرزا بين أضابير ذاكرة العجائز لا يصل إليها إلا قلة محدودة .. أو هكذا أرادت الحكومة ..
إذن من نفض الغبار عن نبوءة العراف نقودينق؟؟ ..
من تلفقها ورمى بها ناحية إلاعلام والعامة؟ .. بعدما كانت طي الكتمان ..
لا شك أن رياك مشار هو من حرك ساكن النبوءة وأيقظها من سبات غظت به عميقا .. ربما شارفت الفترة على نحو قرن الزمان أو أكثر .. في العام 2009م رفع رياك مشار عصا العراف عالية مشرئبة .. (أعادت بريطانيا الرمح إلى مشار في رسالة واضحة لسلفا كير بطائرة خاصة وسط طقوس قبلية أشعلت النيران من جديد ليتداخل الكجور مع السياسة فيعطي مشار قوة إضافية تجعله مصدر تهديد) هكذا ذهب التحليل الاخباري..
فالبنوءة هرولت بعيدا وهي تتحقق يوما بعد يوم .. وإزداد إيمان الناس بها خاصة أهل العراف من قبيلة النوير ..( إن القائد الجنوبي الذي يأتي بالسلام سيمكث في الحكم أياما بقدر سنوات حربه في الغابة) هنا الاشارة واضحة الى جون قرنق ..
أصبع النبوءة يذهب إلى سلفاكير دون أدني شك ( صلعة تموت .. وتعقبها صلعة اخري تغطي دوما بالعريشة ) العريشة هي الراكوبة اي طاقية كبيرة الحجم .. وتصف النبوءة من يستلم بيرق الرئاسة من أبناء النوير .. (من أبناء العم تأتينا راية السيادة طائعة مختارة أو بالدانقا والنشاب .. يقود المركب رجل مفلوج له ابتسامة خامدة .. حاملا القلم المبري بيده الشولاء .. يتلمس طريق الحقيقة بعينه الحولاء التى يصيبها بعض الخمول .. اما جبهته العريضة فهي ملساء مثل العاج وأنعم من عصاتي هذه ) .. وهي كلمات تعني رياك مشار بذاته وصفاته .. أبناء العم يقصد بهم الدينكا بالطبع .. أي أن الحكم ينتقل من الدينكا الى النوير بالسلام أو الحرب ..
كأنما الراوي حامد الناظر تعمد بعث الامل.. أن نبوءة العراف يمكن تطبيقها على ارض الواقع دون إراقة دماء أو تفعيل خراب .. كأنما الرواي يوبخ النخب الجنوبية التى تتصارع بفاعلية السلاح بغية الحصول السلطة أو المحافظة على كرسي الحكم .. كأنما الراوي يدلهم الى سبيل الرشاد .. إنه طريق فرج السقا (عندما رآه الاستاذ خيل اليه انه يري قمبوس يقدمه التاريخ الى الحاضر بعد الف عام .. نعم انه هو .. فرج السقا سليل الملوك السقائيين ..المظفرين من دون سيوف أو دماء .. لقد استعاد اليوم مجد اجداده الغابر .. اصبح منذ الان ناظرا .. واصبح الاحفاد بعد صبر قبيلة أو شعبا اليوم تحقق الحلم .. اليوم صدقت النبوءة) .. لقد إستعاد مجد اجداده ونهى عبودية الاحفاد دون ان تسيل قطرة دم واحدة.. في حين ان برك دماء النبوءة في الجنوب لا تعد ولا تحصى ..
إن كل سوداني حتما يشعر بالفخر تجاه رواية (نبوءة السقا) .. فهي أرخت لحقبة نهضة الرواية السودانية .. فقد اتخذت لنفسها حيزا ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر لعام 2016م فليس من السهولة واليسر أن يرتقي أي عمل أدبي لهذه الدرجة إلا اذا تفوق على نفسه من ناحية الجودة والترابط واللغة .. وكم شعرت بالحزن العميق أن الرواية لم تفز بالجائزة .. رغم تفوقها ناحية الحبكة القصصية وجمال السرد ورصانة اللغة وتماسك الاداء .. ففي زمن الانقاذ الكالح العبوس الاسود يجد أبناء هذا البلد الطيب مايعتزون به ويرفعون رؤسهم بشموخ وأنفة وغرور ليقولون للعالم ان هذا الاديب الرائع منا .. من وسط الصخرة الصماء والكبت والخوف تنبت زهرة .. لتنضم الى مثيلاتها الاخريات (صائد اليرقات) و(ملعون ابوكي بلد ) و(موسم الهجرة الى الشمال) و( الجنقو مسامير الارض) و(شوق الدرويش) ..و(عرس الزين) .. و(منسي) ..
أما في الجنوب هناك من يعتز برواية (نبوءة نقودينق) ويجدها مهدت الطريق لقيام دولة الجنوب .. كما إنها أعطت الضوء الاخضر لمحاربة الفساد .. وقد استخدمت الأغاني والاشعار والطقوس للدعوة لإنهاء العنف القبلي والاثني بالجنوب ..
،لكن هناك أيضا من يري أن النبوءة كانت وبالا خاسيئا لشعوب الجنوب فهي التى اشعلت حروب الدينكا والنوير .. وحروب ايما واخيرا حرب عام 2013م .. وهي التى أفقرت وأجاعت الناس في البوادي وفي المدن .. وهتى التي بترت الجنوب عن الشمال ..
دينق دينق أو (دينق الدبل) كما القبه من دينكا بور .. رجل يمتهن صناعة الفحم ,, يسكن جبل دولار عندما أزوره على سفح الجبل في (تايته) المتواضعة .. يضع امامي شوربة حمام الشقوق (الفأر) ثم يتحدث عن السياسة والاقتصاد والعلم والدين .. فهو رجل مطلع لا يفارقه الراديو إطلاقا .. ذات مرة سألته عن نبوءة العراف نقودينق ..تكلم كثيرا عن كذبها وإستشهد بايات من الكتاب المقدس عن كذب النبوءات على العموم .. وسرد حكاوي عن محاكم التفتيش التى نصبت في اوربا لمحاكمة الزنادقة والسحرة واصحاب الكجور .. وذكر انها اذا تحققت فهي ضربة حظ ـ. فهو مسيحي قح .. ثم ذكرني بالحديث النبوي (كذب المنجمون ولو صدقوا) ..
في اعتقادي الشخصي انه حان الاوان لتنحية النبوءة جانبا .. وأن يلتف أبناء الجنوب الى السلام العادل ورتق النسيج الاجتماعي من أجل نهضة الدولة على أساس إقتصادي متين لتساير جميع الدول الاخري ..
اما غليون العراف (الكدوس) لا احد يعرف مكانه إلا ان بعضهم يري ان الانجليز اخذوة مع العصا .. وبعضهم يقول ضاع من العراف نفسه في مقره بقرية (واط) بلاو نوير .. واخرون يرون انه فقد في حروب النوير ضد الانجليز عام 1913الى 1917م ..
النهاية ..
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..