متلازمة (نكبة فانلة ميسي)

(شحاد) هرم محدودب الظهر يتوكأ بعسر على عصا هزيلة أصابها الدود وإحتوتها الشقوق.. تماثله في العمر تماما أكل الزمان عليها وخلخل بنيانها .. يمر بنا بإستمرار يطلب شيئا لله وأحيانا يقوم بإلقاء بعض الخطب الوجيزة والمواعظ المقتضبة والنبوءات الصغيرة ثم ينصرف لحال سبيله .. وفي أوقات متعددة يغيب ماشاء الله له من الأيام ثم يظهر دون سابق إنذار ويذكر لنا أسباب غيابه كأننا نعيش جزءا من حياته الشاقة لكنه في الواقع كان يعيش على هامش هامش حياتنا .. مع ذلك ظل حبل الود موصول من دردشات خفيفة وكلمات معدودة ..
ذات مرة كنا جلوس كالعادة نتحدث عن (نكبة يوليو 2016 ) المعروفة لدي الكافة بـ (فانلة ميسي) .. بإذا به يلوح أمام مسرح القعدة لم يطلب المساعدة كما هو الحال عادة .. بل رد النقود التى منحاه إياها بطيب خاطر .. وعندما تورادت الي اُذنه حكاية فانلة ميسي قال: (في حياة كل إنسان (ميسي) .. ظهر أو سيظهر لاحقا) ..
ثم أشار نحو العبد لله وقال : أنت أيضا في حياتك ميسي ..
لم يهتم العبد لله بما قاله الشحاذ .. فهو لا يشاهد كل دوريات كرة القدم العالمية أو يتابعها .. وعَدّ ما قاله المتسول مجرد ترهات وتهيؤات وأباطيل لا تسندها حجة ..
لم يكتف الشحاذ بل قال: وللعلم من تطوف عليهم ريح ميسي يجد نفسه بين مفترق طرق ثلاثة أما أن (يدقسك) ولاداعي لذكر أسماء .. وأما أن (تدقسو) أنت وأما ان تصادقه وتآخيه ..
ثم إنصرف وتوارى ..
في معمعة أحداث نكبة فانلة ميسي الشهيرة .. نسي العبد لله الحكاية .. دفنت ذاكرته المتضعضة (ذاكرة السمكة) التجربة المحزنة والمريرة وظلت في القاع المنسي بين التجاويف البعيدة .. ففي حياة العبد لله أيضا كان ميسي كما قال الشيخ الهرم العجوز .. لكن الحكاية ظهرت فجأة كما يظهر شعار قناة الجزيرة من جوف الماء .. وذلك عندما قرأ العبد لله رواية (الحمام لا يطير في بريدة) ليوسف المحيميد .. حيث أن المؤلف يتكلم عن العم صالح إمام المسجد (المصلون يأتون الى مسجده الصغير من معظم أحياء شرق الرياض المجاورة .. يتقاطرون في رمضان لأنه ينهي صلاة التراويح في خمسة عشر دقيقة .. من لم يعرفه ويصلي وراءه لا يستطيع أن يلحق به .. حين ينهي قراءة الأيات يشبكها بنفس واحد مع الركعة.. فلا يفصل الأية الأخيرة عن تكبيرة الركعة : الله أكبر .. كان ينقر الصلاة كما لو كان غرابا فزعا ينقر الارض بعجلة قبل أن يحلق ثانية في السماء) ..
دعاني صديقي لزيارة قريته الجاثمة على صدر شرق النيل.. ركبنا السيارة سويا .. المسافة من الخرطوم إلى القرية حوالي 90 كلم .. خرجت السيارة من الأسلفت بعد أكثر من ساعة مسير .. ثم شقت طريقها خلال طرق وعرة وضيقة على جوانبها (رواكيب) المزارعين الكادحين تحفها حقول قصب السكر لمد البصر وبعض زراعات اللوبية العدسية والخضروات وبعض الفول السوداني .. وصلت السيارة أخيرا إلى القرية المنشودة .. رحب بنا أهل صديقي ترحابا مبالغا فيه شأن أهل القري والنجوع والفرقان الطيبون الذين يكرمون الضيف ويسهرون على راحته ..
جامع القرية قريب جدا حوالي مائة متر من بيت الضيافة .. مبني من الطوب الاحمر وعلى باحته تنتصب أشجار النيم الوريفة وقليل من شجيرات وردة الحمار .. عندما بلغ أذان المغرب اذن العبد لله .. توضأ وذهب إلى المسجد .. وعندما وصل جلس لإنتظار الاقامة .. فجأة شاهد المصلون يتسللون الى الخارج منصرفون أحدهم نبههه قائلا ..
– يا زول الإمام صلي زمان ..
– بالسرعة دي ..
– أيوة بالسرعة دي.. يظهر إنت غريب عن البلد ..عشان كدا الإمام بتاعتنا بيلقبوه بميسي ..
غفلت عائدا .. حيث صديقي وأهله يجلسون يتسامرون ويحتسون شاي المغرب وسط باحة الدار الواسعة .. حيث الهواء توشح بالنسيم فنثره على أجسادهم الغبشاء الراضية عن نفسها فزادتهم غبطة وحبور..
بادرني صديقي : حصلت صلاة المغرب؟ ..
أجبته بالنفي ..
قال لي : الامام بتاعنا سريع مافي زول بيحصلوا .. حتى الصلاة وصلت لعهد السرعة ..
مكثت في القرية ثلاثة أيام بهيجة .. في الصباح أذهب برفقة صديقي الى الحواشة فأملأ خياشيمي برائحة الزرع الفواحة المنعشة .. وأمتع بصري بما تجود به الارض من إخضرار وغلة وبهائم .. في المساء نعود سويا إلى القرية مهدودي الحيل .. ومع بداية أذان المغرب أحث الخطى متجها صوب المسجد الشيخ ميسي .. وعقب الاذان يبدأ الامام ميسي صلاته العجولة كما العم صالح المذكور في الرواية .. بسرعة فائقة وبنشاط شبابي فائر رغم انه بلغ من العمر عتيا.. عقب الصلاة إنتظرته حتى خرج .. ألقيت عليه السلام هاشا باشا .. فعرفني غريب عن القرية والديار.. سألنى عن إسمي ومكان سكني وعن اُسرتي ومع من جئت ثم دعاني الى منزله بغية إكرام منزلتي .. إعتذرت بأدب جم لضيق الوقت .. سألته وكنت أود جس النبط إن كان يعرف أن لقبه ميسي ..
– يا حاج ما عرفتنا بي اسمك ..
قال وهو يسمح لحيته : إسمي فلان الفلاني واللقب ميسي ..
ضحك العبد لله حتى بانت نواجذه : ميسي دا منو ..
– لاعب كورة خطير وسريع ويتقن اللعب ..
– بيلعب وين ..
– في اوربا ..
واصل العبد لله ضحكته :الظاهر انت بتحب ميسي ..
– يا إبني أنا لا أحب ميسي ولا بيبسي .. عليك الله دا لقب مفروض اهل القرية يلقبوني ابوبكر الصديق وللا خالد بن الوليد ..
ثم تركنا القرية وتوالت الأحداث وتكاثرت على (ذاكرة السمكة) الواهنة .. فكل حدث يذهب الى الارشيف حيث لا رجعة إلا (بالتلتلة).. عندما طفت نكبة يوليو 2016م (احداث فانلة ميسي) لم تستطع ذاكرة العبد لله الهزيلة استدعاء قصة طيب الذكر إمام القرية الشيخ ميسي .. لكن الذاكرة ذهبت وإجترت نكبة اخري ربما تماثلها من حيث الاعداد والاخراج وهي نكبة يوليو 1967 ربما إعتَقَدَت الذاكرة انها صنو لها من حيث المأساة والألم .. حاولت مرارا وتكرارا أن أجد رابطا بين النكبتين لكننى فشلت فشلا كبيرا لا احسد عليه .. حتما إن اجتهدت سأجد الأجابة عند المتسول الهرم .. ففي كل مجلس يتناول القصة تجتر الذاكرة نكبة 1967م بمأساتها وهزيمتها المرة وتقهقرها ..
غادرنا القرية ظللت باستمرار أبعث للامام ميسي بالغ تحياتي وكامل توقيري .. وذات مرة أخبرني صديقي أن لجنة الجامع إجتمعت وقررت عزله وإحالته للصالح العام مقلدة سياسة الدولة المارقة .. كانت فاجعة كبيرة للعبد الله .. فالرجل الذي إستأنست الصلاة خلفه أضحي مأمونا .. كما خالد ابن الوليد عندما عُزل من القيادة عاد جنديا عاديا دون تزمجر أو صخب أو ضجر ..
بعدها بشهور من عزل الإمام أتت (نكبة يوليو 2016م ) تقطر وراءها ذكري (نكبة يونيو 1967م) .. إعتقدت عندها اننا تعادلنا نحن وأبناء شمال الوادي لهم نكبتهم ولنا نكبتنا.. ولكن في نكبة 1967 أجد نفسي أقف إحتراما لعبد الحليم عامر رغم أنه تسبب في الهزيمة النكراء.. وأذاق العرب علقم الهزيمة.. لكنه قرر تطبيق العدالة بحيادية في الجرم الشنيع الذي إرتكبه .. ثم نصب نفسه قاضيا وأصدر على نفسه حكما بالاعدام ونفذ الحكم في الحال دون انتظار إستئناف أو محكمة عليا ..ثم أطلق على نفسه الرصاص .. لكننى لم إحترم من كان وراء نكبة فانلة ميسي ..فلم يصدر في حق نفسه حكما بالاعدام .. إنما ظل يقدل في المجتمع مرفوع الهمة والرأس .. لو أن أحدهم منحه مسدسا هدية لوضعه في الجراب على جابنه الايمن .. ثم قدل كما فعل الصحابي أبو دجانة .. دون ان يجرؤ على إفراغ الرصاص على راسه ..
لم تنتهي (نكبة يوليو 2016م ) عند هذا الحد .. بل كلما أري في الجرائد صورة من كان وراءها اصاب بالغثيان والاشمئزاز والتقزز وزعلله في العين مع دوار في الراس وأوجاع داخل كامل الجسد .. لم اُراجع الاطباء لأنهم سيقولون دون تردد أن هذه الحالة المرضية لم تمر علينا إطلاقا ولم ندرسها عندما كنا طلبة .. لكن حسب إجتهادي البسيط وجدت أن هذه الأعراض تشكل وصفا لمرض جديد لم يكتشفه الأطباء بعد .. بل بكل تواضع أقول يعود الفضل الى العبد لله في إكتشاف هذا المرض الجديد .. أعني مرض (متلازمة نكبة فانلة ميسي) ..
[email][email protected][/email]
دايرين جنوب اكتب للجنوب شمال كل ناس يكبتو عنو اكتب عن انا خلاص قريت نبوة سقا