لا يزال طفلاً يحبو

صديقي زميل الدراسة وهو قانوني إمتهن المحاماة لفترة طويلة بالبلاد قبل أن يلحق بمن هاجر من الزملاء إلى بلادٍ تموت أشجارها واقفةً من الصقيع,يهزمهم البرد فيحِنٌّون إلى دفءالعشيرة, لكنهم يتوجسون خيفة من ـ غربة وطنٍ, وهم من هاجر ليس لهاثاً وراء الدولار وحده, بل بحثاً أكبرـ عن آدميةٍ وذاتٍ تعاني ـ شظايا التجني ـ رغم قافية تتقمص عافية, عبثاً وسدىً تنفق جهداً في رتقهاـ (بلادي وإن جارت علىَّ عزيزةٌ/ وأهلي وإن ضنوا عليَّ كرامٌ) وتلك ابيات هزمها ـ بطش التتار الجدد, ففقدت صلاحيتها في عِز قافيتهاوتمام عافيتها وقد نسختها قوافٍ للطائر المهاجر ـ عاطف خيري, مطلعها : بلادي جميلة لولا الغريب).. صديقي زميل الدراسة كان يشاركني السخرية ونقتسم الفقر ومعاقرة الكتاب ونحن بعد شباب وقد هيأت لنا خرطوم تلكم الأيام معارضاً ـ (مِن مَعرَض وليس ـ مُعارضة..(ماااا منعونا وكده) تؤمها كبريات دور النشر العربية,تتحفنا بأدبٍ ماتع, وفكرٍ باتع, وبئس خرطوم ـ وزارة ماليتها اليوم قد جثمت على تاريخٍ صرح من صروح الثقافة والمعرفة وغذاء الروح, فلا هي أطعمتنا فصدَّت عنا (عضة الجُوع الزنيم) لاهي تركت نادي ناصر الثقافي فارداً ما أنتجته العقول من عصير الفكر والثقافة على شارع القصر , وتلك أيام مضت , ومضينا إلى حال بئيس لا نملك معه سوى ـ البكاء على الأطلال, وما أروع ـأطلال ـ ابراهيم ناجي ـ بصوت ـ السِت/كوكب الشرق/ أم كلثوم..هل رأى الحب سكارى مثلنا …فضحكنا ضحك طفلين معاً فعدونا ..فسبقنا ظلنا.
هل يذكر أحدكم آخر مرة ضحك فيها ـ (الضحكة القديمةـ الأصلية؟) والسؤال في منتهى البراءة لأننا اليوم قد ضيعنا نغمة الضحك مع الشريحة القديمة, فأكتفينا بالإبتسامة ـ الومضة ـ (بسمة مِسكول) كما الحال مع اللحمة والعطور والكريمات ..الخ, وحضورٌ باهٍ لـ(فيصل الصحافة): (أنا مِن فقدت الإبتسامة الحلوة / ما صادفت عِيد) و(تاني جزاكم الله خير يا الحيكومة الرشيدة)
على ثقافة الترشيد ونبذ التبذير .. (إن المبذرين كانوا اخواناً للشياطين)
صديقي المحامي المهاجر كنت أتردد على مكتبه بالعمارة الشهيرة بصورة شبه يومية لدرجة ان معظم شاغلي مكاتبها كانوا حريصينعلى تحيتي بـ(يا أستاذ)ظناً بريئا منهم بأني محامٍ كما الصديق تماماً, ولدرجة ان علاقتي معه إمتدت إلي المتدربين بمكتبه من المحامين الجدد, وذات يوم إستفسرته عن سبب غياب إحدى المتدربات لأيامٍ متواصلة, فابتسم وسرد لي قصتها: كلفتها بمتابعة جلسات إجرائية لموكلى المتهم في جريمة قتل, ويبدو ان أهله العائدين من الخارج على عجل لأمره حينما شاهدوه داخل القفص بكوا,فبكت معهم المحامية المتدربة حتى إحمَّرت عيناها, وعند عودتها إلى المكتب لاحظ صديقي/أستاذها ـ إحمرار عينيها, وكانت معرفته للحقيقة كفيلة بنصحها ـ أنها لا تصلح للمهنة, وقد حاولت استخدام حق ـ الصداقة وزمالة الدراسة في اثنائه, علها تعي الدرس فما انثنى, موقف لي قبل ايام استدعى في الذاكرة تلكم التفاصيل, رغم السنوات الطويلة, فقد رافقت جاراً لي بالحي ـ يعاني مرضاًيستوجب حُقنة, وعند وصولنا للمركز الصحي هالني خلوئه من زحمة معروفٌ بها , وبينما جاري داخل المعمل مع الممرض سألت الموظف المعني بالتسجيل عن سِر خلو المركز من طالبي الشفاءـ رغم ان المساء ـ لا يزال طفلاً يحبو, وبقايا شفقٍ أحمر بالسماء يجوِّز إدراك المغرب, وحين أجابني قلت في سري: ليتني سكت,أو ليت أمي لم تلدني,إلا أن لدغة الإجابة حتَّمت جرعة أكبر ـ لإحتقار الذات فلذت ب(ليتني كنت ترابا)… هل ترغبون في معرفة الإجابة ؟ إستعدوا اذن :(لأنو الليلة ما عندنا تأمين, مضيفاً كل أسبوع عندنا يومين ما بنشتغل بالتأمين الصحي!!!!
فقلت:تقصد انو المرضىبيصبروا على المرض يومين كاملين عشان يجوا يوم التامين ؟ فأجاب وكأنه يرد على سؤال عن نتيجة مباراة لهلال /مريخ ودون ان يلتفت إلى أجاب بـ(آآي) فعدوت إلى الخارج (فسبق الإنسان جواي الصحفي) وعدت وقد إحمرَّت عيناي, ولا يزال تحرير سعر الدواء طفلاً يحبو, تماماً كما المجلس القومي للأدوية والسموم.. لايزال يحبو على بلاط إعادة أسعار الأدوية القديمة.
[email][email protected][/email]