أخبار السودان

المخرج الممكن والمستحيل من الأزمة السودانية

عبد العزيز حسين الصاوي

أصدر «اللقاء التفاكري» الذي استضافه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة خلال الفترة من 22ــ 24 سبتمبر الماضي «نداء الي اهل السودان» الذي دعا فيه الى تشكيل لجنة تسيير تجرى اتصالاتها بجميع الأطراف داخل السلطة وخارجها لعقد مائدة مستديرة تهدف للوصول إلى حل شامل للصراعات الوطنية القائمة. وحظيت بالمشاركة في الدورة الاولى لـ «اللقاء التفاكري» الذي عقد في مايو الماضي، وهذه بعض الأفكار على سبيل تنشيط الحوار حول مخرجات هذا اللقاء الذي يستمد أهميته من نوعية حاضريه، ولكن ايضا من انعقاده في إحدى الدول التي تشهد تجربة مهمة في تطوير المجتمعات لأنها، حسب متابعاتي، تركز على تحرير عقل الانسان من خلال تحديث النظام التعليمي. وهذا موضوع آخر ولكنه مع ذلك في صميم كيفية تذليل المعضلة السودانية، وفق تقدير هذاالمقال.

تحرير العقل، تمليك الفرد القدرة على الاختيار الحر بحيث ينتمي الى الجماعة طوعاً وليس بوصفه رقماً في قطيع ويعرف حقوقه وواجباته، هو المنجز الاكبر لعصر التنوير الاوروبي الذي قامت على اساسه، ونجحت، التجربة الديموقراطية. وبقدر ما أتيح لي من معرفة محدودة إزاء هذا الموضوع المعقد والمستجد سودانياً، شرحت في اللقاء الأول كيف أن انعدام الظروف الاوروبية عندنا هو الذي يكشف عن الحلقة المفرغة الحقيقية التي تحكمت في تاريخ بلادنا منذ الاستقلال. ودائرة الحكم العسكري ــ المدني التي يكثر الحديث عنها هي، وفق هذه الرؤية، مظهر أو تفرع عن الدائرة الاكبر الام او الاصل التي أوصلت تدهور اوضاع البلاد الى حضيض خلخلة كيانها الاصلي المجرد نفسه.

تفاصيل هذه الرؤية يجدها من يثير الأمر اهتمامه في كتاب صدر أخيراً عن دار عزة/ الخرطوم بعنوان «الديمقراطية المستحيلة، نحو عصر تنوير سوداني» مجملها أن الامكانية الوحيدة لتوليد العقل الحر المستنير عندنا كان ومازال استدامة النظام الديموقراطي نفسه، بينما يستحيل ذلك دون قطع شوط في عملية التوليد التى تحققت في اوروبا بالثورة الصناعية والصراع بين الاقطاع ــ الكنيسة والبورجوازية وازدهار تيار التنوير الفلسفي والفكري. وهذه هي الدائرة الشيطانية المفرغة التي أطلقت تسلسل الشموليات من 58 ــ 64 الى 69 ــ 85 الى 89 ــ …. مع تزايد نسبة الشمولية وطول العمر فيها حتى وصلت قمتها في النظام الراهن. وبسبب تراكم إفرازات هذه الشموليات، خاصة في حقلي التعليم والاقتصاد، الى جانب الضعف الموروث عن الاختلاف بين التاريخين السوداني والاوروبي، شهد الوزن النوعي لقوى التحديث والديموقراطية اضمحلالاً متصاعداً تظهر آثاره جلية في عجزنا عن قطع الطريق على سلسلة الشموليات بإقامة ديمقراطية مستدامة. وهذا واقع موضوعي مؤداه ان قصورات قيادات الاحزاب ليست المرد الرئيس لضعف المعارضة وإلا لأثمرت جهود استبدالها على يد حركات الإصلاح والتمرد التي طالتها جميعاً أو جهود تكوين أحزاب جديدة، بينما يبقى الاستنتاج الثالث اللامعقول هو العجز الابدي للمجتمع السوداني عن استيلاد قيادات سياسية فعالة، إذا استبعدنا التفسير المطروح هنا.

وبما أن السياسة هي حاصل فعل توازنات القوى والضغوط المتبادلة، فإن من البديهي أن يترجح الميزان لمصلحة المؤتمر الوطني الحاكم نتيجة ذلك الاضمحلال، بحيث يغدو من المستحيل تصور إمكانية قبوله بالتنازلات الضرورية لتحقيق الخطة المضمنة في النداء. والمسألة هنا ليست أحكاماً أخلاقية تنفع معها المناشدات، لأننا إذا وضعنا أنفسنا في مكان قيادات السلطة سنجد ان الحسابات الباردة من منظور حماية مصالحهم سواء كأفراد أو توجه ايديولوجي أو مواقع طبقية لا تقتضي التنازل، وهو أمر تأكد في القناعات بعد النجاح في عبور أزمة زيادات الأسعار أخيراً. وهذا وضع لن يتغير الا إذا تغير ميزان القوى السياسي بحيث يصبح الخيار أمام القيادات الحاكمة هو بين السقوط وخسارة كل شيء أو القبول بخسارة تنازلية جزئية.

فإذا اعترفنا بأن المصادر الذاتية المحلية لزيادة وزن القوى المعارضة غير متوفرة حالياً بسبب الضعف الشديد لتيار الدفع الديمقراطي نتيجة انتفاء شروطه الاوروبية لدينا، يصبح الخيار الوحيد أمامها هو الاستعانة المؤقتة بالتدخل الخارجي. وبغير ذلك، أي الاستمرار بالمهمة المستحيلة لتشكيل كيان معارض يقوم على افتراض وجود هذا التيار كما هو الحال الآن، فإن المعارضة تصبح شريكة للمؤتمر الوطني في التسبب في انهيار مقومات الوجود الوطني بحكم منطقها نفسه الذي يعزو هذا الانهيار الى هيمنة المؤتمر الاحتكارية على السلطة. وعلى هذا الاساس فإن هذا النوع من التفكير خارج الصندوق، حسب التعبير الشائع الآن، يغدو ضرورياً من الناحيتين الاخلاقية والعملية، ولا ينبغي لاي اعتبارات، وعلى رأسها الابتزاز باتهامات العمالة للامبريالية أو الاستكبار، أن تمنع تبنيه. وشهادات الوطنية لا تصدر عن أولئك الذين أوصلونا الى درك الاختيار بين بقاء الوطن أو اللجوء الى العون الاجنبي.

ويفكر صاحب هذا المقال هنا بصوت عال، صوته الخاص وليس صوت أي حزب أو جهة. والتدخل الخارجي لم يعد يعتبر انتهاكاً لحرمة دينية أو تابو وطني كما يشهد مجال ما سمي الربيع العربي الزاخر بكافة أنواع استعانة المعارضات بالتدخل الخارجي ضد أنظمة الاستبداد، تارة العسكري المباشر منه كما هو الحال في النموذج الليبي، والمطلوب الآن من قبل السوريين جميعا بإلحاح، واخرى بالتدخل غير المباشر متراوحاً بين الأنموذجين اليمني والمصري والتونسي. وعلى الصعيد السوداني نماذج القبول الرسمي بالتدخل الخارجي، حتى العسكري منه أممياً وإفريقياً، موجودة بكثرة في دار فور وأبيي وإن كان في ما لا يمس القبضة على المركز. اما القبول غير الرسمي فموجود في استعانة الجبهة الثورية، لاسيما قطاع الشمال، بالامم المتحدة عبر القرار «2046» وأيضا بنفس التوصيف.
الصيغة التي تخطر على البال بالنسبة للأنموذج السوداني مركزياً هي توسيع صلاحيات الآلية الافريقية رفيعة المستوى، مسنودة بدعم عربي ــ غربي اقتصادي وسياسي، لتشمل، في الحد الادني، التوصل الى اتفاق مضمون التنفيذ بين الحكومة والمعارضة لإجراء انتخابات نزيهة أو مشاركة حقيقية في السلطة الى حين موعد الانتخابات القادمة. مع العلم بأن ثابو أمبيكي سبق له أن قاد عملية مماثلة في زيمبابوي عام 2009م أدت إلى اشتراك المعارضة في التركيبة الحكومية، وترتب عليها إنقاذ زيمبابوي من الانهيار الاقتصادي الكامل بنمو يتجاوز الآن 7% سنوياً مع انخفاض مستوى حوادث انتهاك حقوق الانسان، بينما تتركز الجهود على تنفيذ الفقرة المتعلقة بكتابة دستور ديمقراطي في الاتفاق.

وفي مثل هذا السياق تبقى قضية سقوط نظام المؤتمر الوطني في يد قياداته، بمعنى ان هذا التدخل سيرجح ميزان القوى لغير مصلحته لأول مرة منذ قيامه بما يغير نتائج انحيازه لخيار المواجهة بدلاً من التنازل، وليست مطلباً للمعارضة التي ستعمل لهزيمته من خلال صندوق الانتخابات.

وإمكانية تحقق مثل هذا السيناريو تعتمد بطبيعة الحال أيضاً على وحدة المعارضة استراتيجية وتكتيكاً، بحيث توفي بالتزاماتها في الصفقة التي ستنتج عن تفاوضها مع المؤتمر الوطني تحت إشراف الآلية الافريقية والمضي بعد ذلك نحو تحقيق انتقال سلس الى مرحلة تحول ديمقراطي باستلام السلطة انتخابياً. والتجارب العملية لا تدل على امكان تحقق شرط وحدة المعارضة، ولكن يبقى لمن لديه ما يقوله «خارج الصندوق»، أن يقول كلمته ويمشي على قول السيد المسيح، لعل وعسى.

الصحافة

تعليق واحد

  1. لسان حال الأخ الصاوي يقول:

    1 – المخرج عبر التدخل الأممي

    2 – “هو ايه يعني إحنا أحسن من ليبيا وسوريا وباقي الناس اللي إتبهدلت بالتدخلات الأممية”

    3 – “التخل الأممي ما هو اصلا حاصل . الجماعة بس عليهم يفعلوا الموضوع بجدية اكتر”

    4 – “الناس دي كلها دايره التدخل الأممي الأحزاب بى هبابا، وحتى الجبهة الثورية”

    نتساءل مع الكاتب :

    هل الشجاعة والصراحة في أن نعترف بالحاصل ونمشي معاهو في اي إتجاه يقودنا ليهو؟

    هل بقينا شعوب إمعة بالدرجة دي … ينفصل الجنوب نطأطأ روسينا ونسكت ونقول ما الحصل خلاص حصل؟

    وين دور الكاتب و(المفكر) المستنير من كل هذا؟

    دا كلام بتاع يئس وقنوط ..

  2. (اتفاق مضمون التنفيذ بين الحكومة والمعارضة لإجراء انتخابات نزيهة أو مشاركة حقيقية في السلطة الى حين موعد الانتخابات القادمة )
    هو خيار (الكوديسا) الذي ينادي به السيد الصادق المهدي ، وهذا مرفوض جملة وتفصيلاً من كل شعوب السودان .
    ضحايا النظام لايمكنهم ان يتنازلوا عن ما حاق بهم من مظالم وإنتهاكات فظيعه وغير انسانية في حقهم ، وايضاً لا يقبل اهل السودان والجبهات الثورية وشباب
    الثورة والناشطين و المعارضة الوطنية بالداخل والخارج إمكانية إفلات المجرمين من المساءلة والعقاب .
    الحل .. في سقوط النظام ومساءلة قادته ومنتسبيه ومحاكمتهم محكمات عادلة في دولة القانون والمواطنه القادمة .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..