مقالات سياسية

الديموقراطية قادمة .. ولكن (3)

الآن وقد اقترب الوعد الحق ، الذى نراه قريبا جدا برغم ادعاءات الجماعة وتوابعهم من اصحاب المصلحة ، فاننا سنواصل مقالاتنا تحت هذا العنوان ، تفاديا لما حدث فى تجاربنا الماضية بعد الاستقلال مباشرة ، ثم بعد انتفاضتى اكتوبر وابريل المجيدتين . وسنحاول الاجابة على بعض الاسئلة الهامة وعلى راسها : لماذا تنجح الديموقراطية فى الغرب ولا تنجح لدينا فى بلدان العالم الثالث ، ربما باستثناء الهند ؟ أو بصيغة أخرى : هل لاتصلح بلداننا بصفة خاصة للنهج الديموقراطى ؟ وللاجابة على هذا السؤال المفتاحى لابد من الرجوع الى الوراء كثيرا ، الى بدايات التطبيق الديموقراطى بشكله الحديث المعروف ، الذى اصبحت له سمات محددة ومتفق عليها تماما ، مع بعض الاختلافات غير الاساسية .
أين بدأت ولماذا فى تلك المجتمعات بالذات ؟
بدأت الديموقراطية، التى يمكن تلخيص ملامحها ، فى هذه المرحلة من الحديث ، فى كلمة الحرية للفرد والمجتمع فى الحركة والحديث والتنظيم ، بدأت مواكبة وملازمة وموازية لانتصار البرجوازية على الاقطاع وبدأ بناء المجتمع الرأسمالى . وقد كان وقتها من مصلحة الطبقتين الرئيسيتين فى المجتمع ، البرجوازية والعمال هذا النهج الحر . فحرية حركة راس المال ، التى كانت تحد منها طبيعة المجتمع الاقطاعى المغلق ، كانت ضرورية جدا للتطور الراسمالى المتقدم ، بحيث ينتقل من قطاع الى قطاع أو داخل القطاع الواحد حسب توفر فرص الربح . وفى نفس الوقت كانت تلك الحرية ضرورية للعامل ليعمل فى المكان الذى يناسب قدراته ، عكس ماكان الامر فى العهد الاقطاعى ، حيث كان العامل الزراعى مربوط بالارض التى يعمل عليها .
تلك كانت الضرورة الموضوعية للتطبيق الديموقراطى . وكان ايضا من الضرورى لنجاح الثورة الصناعية ان تزداد اعداد الطبقة العاملة لتواكب التنمية الراسمالية الواسعة ، وكذلك ان ينتشر التعليم بكل مشاربه . ومن النتائج المتقدمة جدا لهذا النظام الاقتصادى الاجتماعى ، تكوين الامة بازالة عوامل الفرقة القبلية والطائفية والجهوية . ولعلك ترى الآن عناصر النجاح للديموقراطية فى هذا الواقع الذى فرضه التطور الاقتصادى الاجتماعى لهذا النظام الحديث والمتقدم بمراحل عديدة عما قبله .

ماهى الملامح الرئيسة للنظام الديموقراطى ؟
لكى يطبق المبدأ الرئيس للحرية الاقتصادية المعروف باللغة الفرنسية ب “Laissez Faire”،أى “دعه يفعل ، دعه يمر ” ، كان لابد من الاتفاق على نظام قانونى وادارى يضمن تطبيقه دون عوائق . وهكذا بدأت وتطورت المبادئ الرئيسة للديموقراطية ، فماهى؟
المبدأ العام الرئيس هو : فصل السلطات . فماهى السلطات فى العهد الديموقراطى :
أولا : لابد من وجود هيئة تمثل الشعب بافضل طريقة ممكنة . هنا تم تكوين المؤسسات الممثلة بالانتخاب الحر المباشر ، على مبدأ صوت واحد لكل فرد ، لمن يمثلون الشعب فى دوائر انتخابية جغرافية تشمل كامل البلد المعين . وبما ان هذه المؤسسة من المفترض ان تمثل كل الشعب ، فلابد ان يكون لديها صلاحية اختيار من يدير شئون البلد نيابة عن هؤلاء الذين يمثلون الشعب ، وان يكون من حقهم ايضا مراقبة ومتابعة خطط تلك الادارة فى جميع مجالات الحياة .
ثانيا : السلطة التنفيذية : وهى التى تتولى وضع الخطط وتنفيذها وادارة الشئون المختلفة لمصلحة الشعب وتحت رقابة ومتابعة ممثليه . وبالتالى لابد من وجود علاقة مقننة وثابتة تساعد الطرفين للقيام بدوريهما بما يحقق مصالح الشعب برضاء ممثليه ، ودون تغول سلطة على الاخري.
ثالثا : السلطة القضائية : هذه السلطة هى التى تراعى تحقيق مبادئ العدالة المتفق عليها فى القوانين المقرة بواسطة الشعب ونوابه وعلى راسها الدستور ، الذى هو ابو القوانين حيث انه يضع المبادئ الرئيسة التى تنطلق منها كافة القوانين التفصيلية التى تحمى حقوق الافراد والجماعات ، وكذلك تحكم العلاقات بين مؤسسات الدولة المختلفة وافرادها .
رابعا : لترسيخ مبادئ القانون والعدالة ، كان لابد من ظهور مؤسسات أخرى تساعد فى بسط الحريات والرقابة على التطبيق الحازم واللازم لتلك المبادئ لتصبح راسخة فى المجتمع. لهذا نشأت الاحزاب والهيئات الشعبية المختلفة والصحافة والاعلام بصفة عامة ، التى سميت السلطة الرابعة لما لها من تأثير على كل السلطات بواسطة التأثير والتأثر بالرأى العام .

لماذا فشلت بلدان العالم الثالث فى تبنى هذا النهج البين ؟
( نموذج السودان )
لقد راينا فى نموذج التطور الديموقراطى كما حدث فى الغرب ، انه كان مواكبا للتطور الاقتصادى / الاجتماعى ، فماذا حدث عندنا ؟
كان شعار الحزب الوطنى الاتحادى بعد الاستقلال ، كما ذكرنا فى مقال سابق هو ” تحرير لاتعمير ” ، وكأنهما يتناقضان ! ثم جاءت الحكومات الحزبية والعسكرية المتعاقبة والمشروعات الانتاجية التى تركها لنا المستعمر تتدهور ومعها الخدمة المدنية التى كانت مثالا جعل البريطانيين ينصحون الشيخ زايد جلبها فكانت فاتحة خير على دولة الامارات باعتراف اهلها . ثم جاءت الطامة الصغرى مع مايو من خلال التأميم والمصادرة والفساد الذى يتبع الدكتاتورية كظلها ، ثم اعقبتها الطامة الكبرى مع الانقاذ ، وهى التى لاتحتاج الى نماذج وادلة اذ انها معروضة فى الفضاء العريض لكل ذى عينين أو أذنين . وهذه الاخيرة بررت عدم الاتجاه الى التنمية بمبررات الاسلام السياسى ، التى تؤمن بالتجارة لان الله حرم الربا ولم يحرم البيع ، ولكن اى تجارة وأى بيع وأى ربا !
النتيجة لكل هذه العهود ” الوطنية ” هو مانرى من تدهور اقتصادى كاد ان يقضى على الطبقات الحديثة من راسماليين وطنيين وعمال ومن طبقة وسطى من خلال التشريد والاقصاء الاجتماعى والسياسى . وفتح الباب واسعا لنكوص المجتمع الى مؤسسات القبيلة والعرق والجهة . ومن جهة أخرى عمت الجهالة بازدياد حالة الامية حتى بين الجامعيين . وهكذا أصبح الطائفيون والقبليون والجهويون هم الذين يأتون الى مؤسسة التشريع ، بل وتتزايد اعدادهم مع التدهور الاقتصادى / الاجتماعى نتيجة السياسات المعادية للتنمية من حيث هى تنمية وبدون توصيف رأسمالى أو أشتراكى أو وطنى ديموقراطى ، الى ان اصبح ثلث اعضاء البرلمان من الاميين !!
ولعلكم تذكرون ما حدثناكم به فى المقالين الاولين من انه فى عهد ديموقراطى تم ذبح أحد المبادئ الديموقراطية الاساسية : فصل السلطات ، فقد رفضت حكومة الصادق المهدى حكم المحكمة الدستورية فى قضية حل الحزب الشيوعى وطرد نوابه بعد ثورة اكتوب المجيدة . وهكذا فتح الباب للمرة الثانية ، وبأيدى ديموقراطية ، للكفران بها وبمبادئها ، واللجوء الى وسائل اخرى للوصول الى السلطة ، التى هى غاية كل تنظيم سياسى . واذا كان هذا قد حدث فى عهد ” ديموقراطى ” فماالذى يمنع عهد دكتاتورى متفرد الصفات فى كل تجارب الحكم الدنيوية ، من ان يصدق بنشوء الاحزاب ، ثم يمنعها من ممارسة نشاطها السياسى ، بل ويبدأ حملة مماثلة لحملة معهد المعلمين لحل حزب معارض يكون بالطبيعة ساعيا الى السلطة ؟! ويصدق بانشاء الصحف ثم يصادرها لان تستكتب فلانا أو علانا ؟! ثم يدعى ان الحرية التى يستمتع بها الشعب السودانى لامثيل لها فى منطقتنا ان لم يكن فى العالم اجمع !
وأخيرا ، فان نظام الانقاذ فى سبيله الى مذبلة التاريخ وعاجلا ، وليس مهما طال الزمن ، وبالتالى قلابد من الاعداد لمابعده حتى لاندع فرصة للتاريخ لكى يكرر ماحدث فى الماضى . فالدكتاتورية بينة والديموقراطية بينة وليس بينهما أمور متشابهات !!!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..