تقنين الشريعة الاسلامية (5+6)

تقنين الشريعة الاسلامية (5)
مهما كنا متفقهين في الدين يكون من الصعب أن نعرف حكم الله على وجه التحديد وهذا هو السبب في بروز علم الفقه لمعرفة حكم الله، فمعظم الأحكام ليست يقينية وإن بنيت على نصوص قطعية الثبوت. يقول الدكتور محمد شحرور: “اليقين في قوانين الكليات حتمي وان اليقين في قوانين الجزئيات إحتمالي”.

لكن يجوز ان نعرف الموجهات العامة بصورة أكثر وضوحاً والتي هي روح النص ومقاصده العامة. يروى عن الرسول (ص) كان إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه قائلاً ?.. . واذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم ام لا”!!!

ظل أمر الدين، عبر تاريخ الإسلام، مشترك بين الأمراء والعلماء، وغالباً ما يستغل الأمراء العلماء لتحقيق مآربهم بسبب ما لديهم من سلطة ومال. فانظر لفعل يزيد بن عبد الملك حين ولي الخلافة بعد عمر ابن عبدالعزيز، يحكي د. امين الخولي عن ذلك: “قال سيروا بسيرة عمر بن عبد العزيز، فأتى بأربعين شيخاً فشهدوا له: ما على الخلفاء حساب ولا عذاب”. وعلى هذا قس المدى الذي بلغه تأثير السياسة في الموروث الديني. وخير دليل على ذلك إنقسام الأمة إلى شيعة وسنة والذي يعود في أساسه الأولي للسياسة والحكم وليس للدين.

يقال ان فكرة تقنين الشريعة ? بطريقة ما (اي ان تصبح قانونا عاما للدولة) ? ساورت عدداً من الخلفاء في العهد الأموي والعباسي ولأسباب سياسية، ولكنها كلها لم تنجح. ففي جمع السنة في عهد عمر ابن عبد العزيز نوع من التمهيد لهذا التقنين، كما في محاولة الرشيد إمضاء موطأ الإمام مالك إلى كل الأمصار نوع من التقنين. لقد كانت محاولات لخلق نظام قضائي موحد له تشريعات موحدة يعبر عن وحدة الإمبراطورية وثقافتها ودينها.

قال المنصور لمالك بن أنس “يا أبا عبد الله إنه لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك، وإني قد شغلتني الخلافة، فضع أنت للناس كتاباً ينتفعون به تجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر ووطئه للناس توطئة، قال مالك: فوالله لقد علمني التصنيف يومئذ”.

تقنين الشريعة الاسلامية (6)
عودة للدين والدولة
يقول بعض المفكرين إن عملية التدوين الأول تمت من وراء كواليس السياسة وخدمة أغراض الدولة. يقول الجابري عن عصر التدوين. “هذا العمل الذي تم في وقت واحد وفي أمصار متباعدة لا يمكن أن يحدث هكذا تلقائياً وبمجرد المصادفة. لا بد وأن تكون الدولة وراء هذه الحركة العلمية الواسعة التي تستهدف ?ترسيم? الدين، إذا صح التعبير (أي جعله جزءاً من الدولة وفي خدمتها).

بل ويذهب أكثر من ذلك، وأظنه محقاً ولكن أكثر الناس لا يعلمون، بقوله إن “اللحظات الحاسمة في تطور الفكر العربي الإسلامي لم يكن يحددها العلم وإنما كانت تحددها السياسة” . ولنضرب مثلاُ برجل يتفق عليه معظم أهل السنة في ورعه وتقواه وهو الغزالي. فالغزالي على علمه ومكانته في قلوب أهل السنة وهو صاحب كتاب الإحياء الذي قيل عنه أنه كاد أن يكون قرءاناً من شدة حب الناس له وشموله.

الغزالي يقال أن الكثير من مواقفه تمت تحت شكل أو آخر من الضغط السياسي. ومعلوم أنه كان ضالعاً في أمور السياسة في زمان مضطرب. فانظر إليه في هذا القول: قال ابن السبكي في الطبقات، قال أبوحيان التوحيدي، سمعت الشيخ أبا حامد يقول لطاهر العبادان: “لا تعلق كثيرا لما تسمع مني في مجلس الجدل، فإن الكلام يجري فيها على ختل الخصم ومغالطته ودفعه ومغالبته فلسنا نتكلم لوجه الله خالصاً، ولو أردنا ذلك لكان خطْوُنا إلى الصمت أسرع من تطاولنا في الكلام وإن كنا في كثير من هذا نبوء بغضب الله تعالى، فإنا مع ذلك نطمع في سعة رحمته”.

كذلك يقول الجابري من أن الدولة السلجوقية قد جندت “الفقهاء والمتكلمين لإبطال نظرية ?المعلم? و ?التعليم?. .. وهي كما هو معلوم من فكر الباطنية، وكان على رأس من جند لهذه المهمة أبو حامد الغزالي. وعليه يمكننا أن نفهم أن السياسة تلقي بظلالها على كثير من التحولات الخطيرة في تاريخ الفكر الإسلامي.

ويحضرنا هنا المتوكل وتحوله الشهير للسنة. معلوم أنه فعل ذلك لأسباب تتعلق بمشاكل تخص حكمه الذي عرف عنه الفساد الشديد. والإسلام ليس بدعاً في ذلك فها هو قسطنطين الشهير يتحول للمسيحية في دراما شهيرة ولأسباب ليست كلها لوجه الله بل كانت لديه مصلحة راجحة لحكمه في ذلك وقد ترك تحوله ذلك أثراً عظيماً على المسيحية وحولّها من ديانة لا شأن لها بالدنيا إلى سلطة قابضة، لها ممتلكاتها وفرضت سلطانها أخيراً حتى على الذين جلسوا على كرسي قسطنطين نفسه.

لم تتمكن المسيحية من الإستعدال والإستقامة إلا بعد أن تم التخلص من العمل الذي قام به قسطنطين بفصلهم للدولة عن الكنيسة كما كانت قبل قسطنطين. ومعلوم إنشقاق كنيسة إنجلترى عن البابوية لأسباب تتعلق بزيجات الملك هنري الثامن.

عبد المؤمن ابراهيم احمد
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. بعد التحية .
    نقل كاتب المقال عن الجابري قوله((اللحظات الحاسمة في تطور الفكر العربي الإسلامي لم يكن يحددها العلم وإنما كانت تحددها السياسة” . ولنضرب مثلاُ برجل يتفق عليه معظم أهل السنة في ورعه وتقواه وهو الغزالي))
    لا اعتقد ان هذا صحيح , فالاحداث الحاسمة في تاريخ الفكر الاسلامي حدثت قبل الغرالي بكثير أي في القرنين الثاني و الثالث الهجريين والغزالي عاش في القرن الخامس الهجري ( 450 -505 ه) . اللهم الا ان كان يقصد علم الكلام و الذي لا يمكن اعتباره جزءا اصيلا من الفكر الاسلامي فهناك طائفة من العلماء الاثبات نهوا عن الخوض فيه و كرهوه , بل الغزالي نفسه رجع في ايامه الاخيرة على الانكباب على علم الحديث .
    قال عنه الامام الذهبي في كتاي سير أعلام النبلاء : قد ألف الرجل في ذم الفلاسفة كتاب ” التهافت ” ، وكشف عوارهم ، ووافقهم في مواضع ظنا منه أن ذلك حق ، أو موافق للملة ، ولم يكن له علم بالآثار ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل ، وحبب إليه إدمان النظر في كتاب ” رسائل إخوان الصفا ” وهو داء عضال ، وجرب مرد ، وسم قتال ، ولولا أن أبا حامد من كبار الأذكياء ، وخيار المخلصين ، لتلف .
    و نقل ايضا عن الجابري : (( ول بعض المفكرين إن عملية التدوين الأول تمت من وراء كواليس السياسة وخدمة أغراض الدولة. يقول الجابري عن عصر التدوين. “هذا العمل الذي تم في وقت واحد وفي أمصار متباعدة لا يمكن أن يحدث هكذا تلقائياً وبمجرد المصادفة. لا بد وأن تكون الدولة وراء هذه الحركة العلمية الواسعة التي تستهدف ?ترسيم? الدين، إذا صح التعبير (أي جعله جزءاً من الدولة وفي خدمتها). ))
    الحق هو أن القيام بالتدوين في فترة واححدة و في بقاع مختلفة من العالم الاسلامي بالعكس هو دليل على عدم تدخل السلطة , ففي تلك الازمنة لم تكن هناك وسائل مواصلات سريعة كما في العصر الحاضر و لم توجد وسائل الاتصالات و بالتالي كان من المستحيل على اية سلطة التحكم في مثل هذه الامور خفية كما هو ممكن الان.أضف الى ذلك ان اجزاءا من العالم الاسلامي لم تكن اساسا ضمن سيطرة الدولة العباسية و كمثال على ذلك الدولة الاموية في الاندلس , أضف الى ذلك وجود تيارات مختلفة مثل الخوارج و المعتزلة و الشيعة و غيرهم في اماكن غير بعيدة عن عاصمة العباسيين

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..