الفاشر : وترجّل المناضل أبو القاسم حاج محمد

الرأي24

الحلم الدستورى

الفاشر : وترجّل المناضل أبو القاسم حاج محمد

المتوكل محمد موسي

أبت الأقدار إلا وأن تُفئد قلب مدينة الفاشر مرةً أُخرى ، لتتنزل عليه الأحزان فتنسال الدموع تبكى فراقاً آخر فادح الخطب جلل ، فقبل أن تجف المآقى التى بكت الصائغ ورجل البر الراحل إسماعيل عمر ، أفل شهابٌ آخر كرَّس حياته المديدة عشقاً وحباً للمدينة الصابرة ولأهلها الكرام ألا وهو الأستاذ المربى والخطيب المفوِّه ورائد الحركة الوطنية العم أبوالقاسم حاج محمد الذى تخطى مسافاته الذاتية وأثرى حياة الناس هناك ، مقدماً علمه ونضاله وإحساسه قرباناً من أجل رفعة وكرامة المواطن الفاشرى ، وحُق لنا أن نحزن ولعيوننا أن تدمع ولكن لا نقول إلا مايرضى الله عز وجل ، فلله ما أخذ ولله ما أعطى .
مناقبه كثيرة وبصمته جلية ، فلنحو أكثر من نصف قرنٍ من الزمان كان الراحل أسير قلقٍ لكل ما يصب فى منفعة أهله ، يناضل ويعظ ويسعى بين الناس باذلاً وقته وجهده من أجل تنويرهم ومساعدتهم فى شئون حياتهم ، نقف فى إحدى محطاته النضالية الكثيرة هذه ، كما هو معروف كان لأهل مدينة الفاشر دورهم الفاعل فى أحداث الإستقلال وقد لعبوا دوراً كبيراً ومؤثراً فيه ، تلبيةً لأشواق الإنعتاق من ربقة المستعمر والتشوُّف لمستقبلٍ أكثر إشراقاً ، ولذا كان أهل المدينة فى طليعة الراكبين موجة المناداة بالإستقلال والمزاحمين على أبواب شرفه .. بل إن إقدامهم على حرق العلم الإنجليزى يُعد من أخطر مراحل النضال ضد الإنجليز فى السودان قاطبة ، الأمر الذى أحزن الإمبراطورية التى كانت لا تغرب عنها الشمس فقد كان حرق العلم صدمةً كبيرة جداً ولطمةً لغرورها أن يتم حرق علمها وهى كانت القوة العظمى الأولى فى العالم آنذاك .. لقد تصدى مواطنو مدينة الفاشر فى عام 1952م لإنزال العلم الإنجليزى من سارية المديرية وإحراقه فى مشهدٍ بطولى مؤثر .. يدل على عظم الحس الوطنى لدى أهل مدينة الفاشر .. وكانت قائمة الشرف الوطنى قد ضمَّت كلاً من الأستاذ الراحل أبو القاسم حاج محمد والأستاذ يوسف محمد نور وقد كانا من طلاب جامعة الأزهر ويُمثلان فى ذلك الزمن الطليعة المثقفة فى المدينة إضافة الى كل من المرحوم قمر الدين إسماعيل والأستاذ هاشم عبد العزيز والمرحوم الحاج أمين حسب الله والمرحوم حسن محمد صالح والمرحوم محمد محمود والسيد عبد الرحمن حسن طويل وآخرين… وقد كانت أهم الأهداف والرسائل التى كان ثوار الفاشر يرغبون فى إيصالها بقيادة الراحل هى تشجيع الآخرين لمضاعفة وتيرة الإحتجاجات التى تطالب برحيل الإنجليز .. أيضاً من مواقفه المشهودة نضاله ضد نظام مايو فقد كان إنتقاده للرئيس نميرى صريحاً لا مواربة فيه .. وقد كان النظام آنذاك شديد البطش يخشى الناس مجابهته والدخول فى مشاكل معه ، آلى على نفسه إثارة حماس جماهير المدينة وقيادتهم للوقوف ضد تعيين الطيب المرضى حاكماً للإقليم ، ومما يُحسب له أنه كان زاهداً فى المناصب السياسية رغم أن جماهير مدينة الفاشر تخرج للتظاهر والحشد حالما يظهر هو فى مسرح الأحداث ويدعوها لذلك إلا أنه لم يفكر فى إستثمار هذه الكاريزما من أجل تحقيق طموحاتٍ سياسية ، فكل همه كان يتركز فى أن يقود أهله إلى تحقيق تطلعاتهم المشروعة ، نسأل الله العلى القدير أن يتقبله بقبولٍ حسن وأن ينزل عليه شآبيب رحمته.
* الهبات الشعبية و الثورات العربية ، التى اندلعت فى الأ شهر الماضية وما زال بعضها يمور حتى الآن ، كل من تابعها عن كثب واطلع على الشعارات التى رفعتها يجد أنها لاتخرج عن أسباب واحدة وهي الضيق ذرعاً بالحكم الأزلى للفرد وممارسات بطانته والمقربين منه وولوغهم في الفساد، وتسلط الأجهزة الأمنية الحديدية والباطشة ، ورهن مؤسسات الدولة لخدمة مصالح فردية وسيطرة بعضٍ من أهل الحظوة على كل مقدرات وثروات البلاد بدلأً من خدمة الشعب والوطن تفسيراً للمقولة المعروفة أن الحكام هم خدام الشعب ، والشعب هو السيد الذى يدفع أجور ومرتبات ومخصصات معقولة لقاء أتعاب هؤلاء الحكام الذين يقومون بعبء إدارة الدولة ، ولكن الآية قُلبت رأساً على عقب فابتسرت الدولة كلها فى شخصٍ واحد يدور فى فلكه زمرةٌ من الناس على طريقة المثل القائل ( من جاه الملوك نلوك ) فصوروا له أنه هو الربّان الوحيد القادر وعلى يديه هو فقط ولا أحد غيره يمكن أن تخب سفينة البلاد عباب البحر الصاخب ويصدِّق الحاكم الفرد إفتراءات هؤلاء المصلحجية الذين يصل بهم الريّاء والنفاق حداً من التزلف يكادوا فيه أن يحذفوا من وصف الربان حرفىّ الألف والنون !.
فكل الشعوب التى رفعت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، اختصرت كل تفاصيل المطالب فى وضع دستور يضمن بناء دولة مدنية ومجتمعٍ حرٍ ويقطع الطريق نهائيا على عودة الدكتاتوريات والاستبداد ، والقصة تعود إلى أن هذه الجماهير الثائرة والتى استفاقت من ثُباتها العظيم أدركت أن الأمور لا تستقيم فى بلادها إلا بكتابة دستور دائم تتواثق عليه ، يضع حداً للعبث الذى ظلت الأنظمة الدكتاتوريه تُعيثه فى البلاد ولعل الأهم من ذلك كله أن الدستور الدائم المتواثق عليه من جميع طوائف المجتمع هو الضامن الوحيد الذى سيدرأ من بلادهم شرور وكوارث تدور حولهم فى المنطقة الإقليمية التى يعيشون فيها ، فلقد أدركوا أن كلما استطال العهد والدستور المرضى عنه والمتواثق عليه غائباً كلما تفاقمت الأزمات لديهم وكلما غاصوا أكثر وحولها ليصبح التغيير ومحاربة أنظمتهم الإستبدادية الفاسدة أكثر تكلفة وأغلى مهر ، ولذا سارعوا بكنس هذه الأنظمة بعد أن دفعوا فواتير غالية من دمائهم وأرواحهم أقل مما كان سيدفعونه إذا ما تقاعسوا قليلاً فى إنتظار أن تثوب هذه الأنظمة وهذه الدكتاتوريات إلى رشدها ومن ثم تعود إلى إنتهاج أسلوب حكمٍ رشيد يضع مصلحة الشعوب فى أعلى سُلم الأولويات ، وبما أنهم يدركون جيداً أن حكامهم لا يفعلون ما يحلمون هم به حتى يلج الجمل فى سُم الخياط ، توكلوا على الحى الذى لا يموت وفعلوها ، لتنتظرهم أهم مرحلة من مراحل نضالهم النبيل وأكثرها تعقيداً ألا وهى كتابة الدستور الحلم وحماية مكتسباتهم من الوقوع فى شباك إنتهازيى الثورات والمتخصصيين فى هذا النوع من السرقات.
لم يحيق ما حاق بالناس من آلام وظلم وفقر ومرض وتخلف ثم صراع محتدم حول السلطة إلا بسبب غياب الدستور الدائم والمتفق حوله ، والأمر أشبه بالدائرة المغلقة فكلما سدر الحكام فى الطغيان كلما نزلت الشرور بالشعب تحمل الفقر والجوع والمرض ليبدأ الصراع حول السلطة من فئة تعتقد أنها المخلص من كابوس هذه الدكتاتورية ، وآخرون يصطرعون حولها باسم الجماهير لكنهم فى واقع الأمر هم يطلبون السلطة لأنفسهم فتُزهق الأرواح وتُهدر الموارد وتدفع الشعوب أثماناً باهظة نتيجة هذا الصراع المدمر حول السلطة ، وما أغناها عن كل هذا العناء والرهق والإبتلاءات إذا كان هناك دستور دائم يحدد كيف تُحكم البلاد حتى لايقفز إلى سُدتها كل آفاق ، الدستور الدائم ليس هناك ما يُناظره فى وظيفة وضع الأمور فى نصابها ، فلا أحد يستطيع التعدى على حريات الآخرين ولا هناك سلطة أمنية تستطيع إعتقال الناس دون أسباب منطقية وحجزهم وإبقائهم فى المعتقلات دون تقديمهم إلى محاكمات عادلة ، لاأحد يستطيع أن يسرق المال ويحتمى بالحصانة الدستورية فى ظل دستورٍ محترم ومتفق عليه ، بإختصار شديد.. كله .. كله محسوم بالدستور ، ولكن أى دستور؟؟ الدستور الذى نقصده ليس بأية حال دستور تضعه جهة بعينها تسهر هى فى وضعه والغالبية العظمى من الشعب تتفرج دون أن يكون لها حق المشاركة وإبداء الرأى ، مثل هذا الدستور لا يُسمى دستور تُساس به شئون دولة وإنما لايعدو أكثر من مجرد لائحة داخلية لشركة من الشركات تخص أصحابها وملاكها ولا يمكن أن ترتقى مثل هذه الأوراق إلى مستوى قداسة دستور دولة تحترم شعبها وتحرص على قيم العدالة والمساواة وشيوع الحق ، سنظل نكرس كل جهودنا من أجل هذا الحلم الدستورى حتى يصبح واقعاً يسعى بأقدامه بين الناس.

الصحافة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..