قوى التغيير

بعض الاستنتاجات من وحي ثورات المنطقة

قوى التغيير «1»

د.الشفيع خضر سعيد

في مقالاتنا السابقة، تناولنا بالتشخيص والتحليل حالة أنظمة الطغيان والاستبداد في منطقتنا، والتي أخذت في التداعي والانهيار، بعجلة تسارعية أدهشت الكثيرين، فمنها من قضى نحبه ومنها من ينتظر. وابتداءً من مقال اليوم، سنقوم برصد عدد من الاستنتاجات والتعميمات النظرية المتعلقة بما أثرناه في تلك التحليلات، مع ضرورة الإشارة إلى أن ما سنرصده ليس بالضرورة يطرح لأول مرة، بل ربما هو تأكيد لاستنتاجات سابقة معروفة. كما إننا نود التنويه والتشديد، بأن ما سنطرحه لا ندعي صحته المطلقة ولا نتمسك به حصريا، أونغلق الذهن أمام مراجعته وتعديله، فهو مجرد اجتهاد نطرحه للنقاش والحوار وفق احتمالين: صموده أو انهياره. وعموما، نحن مازلنا على قناعة تامة، كما أشرنا من قبل في موقع آخر، بأن الفكر مهما بلغ من دقة التعبير عن ذاته واتسم بالموضوعية في طرحه، فإن الاستنتاجات التي يصل إليها تظل دائما نسبية.
وتحدثنا في تلك المقالات، عن استماتة أنظمة الطغيان والاستبداد من أجل البقاء وإطالة عمرها، بإجراء بعض التحورات والتحولات في بنيتها نحو تبني المزيد من الانفتاح والديمقراطية والعصرنة، لكن في حدود الشكل والصورة فقط. أي الإبقاء على طابع نظام الطغيان وجوهره الاستبدادي، مغلفا بصيغة ملطفة ناعمة الملمس، حيث يسمح لك بالصراخ، وحتى الشتم، دون أن يكون لك أي تأثير على مركز وآلية اتخاذ القرار. أي دائما تظل النتيجة هي فقط سماع رجع صدى صوتك… فهي ديمقراطية رجع الصدى! لكن من الواضح، وهذا هو استنتاجنا الأول والذي ربما يندرج في باب البديهيات، أن سمة العصر هي اندفاع رياح التغيير بكل قوة لتقتلع ظاهرة الاستبداد والطغيان، خشن الملمس أو ناعمه، ودفنها في مقبرة التاريخ، ولتذري في بقية أرجاء الكون بذور لقاح زهرة الحرية والديمقراطية حتى تنبت شجرة وارفة الظلال، تستظل بها البشرية فوق كل أرض وتحت كل سماء. وسمة العصر هذه تتطابق مع المجرى الموضوعي لحركة التاريخ. فمسار الإنسانية، منذ البدايات الأولى، كان دائما نحو الأفضل، نحو الخير والعدالة، نحو التحرر والتخلص من طغيان الطبيعة وطغيان البشر.
أما استنتاجنا الثاني، فيتعلق بما طرحته ثورات المنطقة، المنتصرة أو التي لا تزال معاركها تحتدم، من تساؤلات حول التغيير: ما هي قواه، وما هي مهامه وما هو برنامجه؟. تقول التجربة التاريخية والمعاصرة إن كل أنظمة الطغيان والاستبداد، السافر منها أو الملطف بديمقراطية رجع الصدى، التي حكمت أو لا تزال تحكم شعوب المنطقة، سواء باسم المستبد العادل، أو باسم نظام الحزب الواحد، الصريح أو الملون بنظام التحالف الصوري مع أحزاب «الستلايت» ذات المدار المحدد، أو باسم الجمهورية أو الملكية أو أخيراً الجملكية، أي التوريث في ظل النظام الجمهوري، كلها فشلت في التصدي للقضايا المعقدة التي ظلت تواجه واقع المنطقة الراهن، كما فشلت في استنهاض مشروع النهضة المتعثر أصلا، سواء النهضة العربية أو النهضة الأفريقية، بل وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001م المأساوية، وتحت مسمى تجفيف منابع الإرهاب والحد من انتشاره، وصلت الأنظمة الحاكمة في افريقيا والوطن العربي إلى درجة من الخنوع والخضوع أصابت معنى السيادة الوطنية في مقتل، مثلما هددت وحدة الوطن. انظر إلى السودان، أكبر بلد عربي وأفريقي، ومن أغناها من حيث الموارد وكرم الطبيعة، نال استقلاله في يناير 1956م ليتمزق إلى جزءين، حتى الآن على الأقل، في يناير 2011م، نفس شهر مولده، بمباركة الولايات المتحدة والمجتمع الدولي..!!
وفي ظل الضعف المتمكن من القوى البديلة المعارضة، ذاك الضعف الذي يعود جزء منه إلى سياسات القمع والاجتثاث من قبل النظام الحاكم، ساد اليأس والإحباط في الشارع، وخصوصا في أوساط الشباب الذين تفشت وسط أقسام كبيرة منهم صناعة الوهم، فأصبحوا لا يرون نورا في مستقبل النفق وإنما في ماضيه عبر وهم الأصولية الدينية، أو يعيشون وهم الحاضر الزائف من خلال المخدرات وسقط المتعة، مع توطن وتوطد التجهيل والتسطيح في الحالتين! لكن، بالمقابل كانت هنالك أقساما أخرى، إطلاقا لم تفقد الأمل في التغيير، بل ظلت تؤكد إمكانية الحراك الجماهيري، وتدعو وتحمس الجماهير للتضحية بكل ما تملك، حتى الحياة، من أجل التغيير. صحيح، ربما لم تكن تمتلك برنامجا تفصيليا للبديل المنشود، لكنها كانت واعية تماما بالمؤشرات والملامح العامة للبديل القادم، البديل المقنع لاستنهاض الحراك الجماهيري. نصوغ هنا جملة اعتراضية، ولكنها أساسية ومحورية، وهي: أن ما كانت تقتنع به الجماهير في الماضي، برنامجا وقيادة، ليس بالضرورة أن يظل مقنعا اليوم، وما كان فعالا وناجحا من مناهج وأساليب العمل في الماضي، ليس بالضرورة أن يستمر فعالا وناجحا اليوم. وعلى عكس مصانع الأدوية الطبية التي تحدد تاريخ انتهاء صلاحية دوائها الذي سيستخدمه الجمهور، فإن الذي يحدد صلاحية برنامج التغيير وقيادته ومنهج عمله هو الجماهير نفسها، ومن خلال حراكها وانتقالها من المجرد إلى الملموس، آخذين في الاعتبار خصوصية الوضع في هذا البلد أو ذاك.
وإذا أخذنا في الاعتبار فشل النخب التي ظلت تحكم شعوب المنطقة منذ فجر استقلالها في تنفيذ التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ظلت تحلم بها هذه الشعوب في بلدانها، وانتبهنا إلى التركيبة الطبقية في هذه البلدان العربية، وإلى الدور الذي ظلت تلعبه مجموعات المثقفين والمهنيين والضباط وحركة المجموعات الإثنية والقومية…الخ، فمن الواضح أن تحقيق التغيير المنشود، كما أفرزت تجربتا مصر وتونس، يتطلب:
أولا: مشاركة واسعة من مختلف طبقات وفئات الشعب وشرائحه السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية وحركة المجموعات الإثنية والقومية.. الخ، على الرغم من وجود فوارق في المصالح، وعلى الرغم من وجود نزاعات قائمة. إن الدروس المستخلصة من واقع المستجدات والمتغيرات المعاصرة والمعايشة، بما في ذلك انهيارات التجربة الاشتراكية، تقول بأن تطور الثورة الاجتماعية نحو تنفيذ تلك التحولات، لا يرتبط بفكرة أن التغيير يمكن أن ينجز بواسطة حزب واحد أو طبقة واحدة، بل يرتبط بالمشاركة الواسعة بعدم إلغاء الآخر، بل احترامه والاقتناع بدوره. والمسألة لا تقتصر على واقع بلداننا فحسب. فإذا أمعنا النظر، على الصعيد العالمي، إلى المستجدات والتطورات الجديدة والمعاصرة، سنجدها تطرح قضايا جديدة، واسعة ومتشعبة، من نوع: الموقف ضد الحرب ومن أجل السلام العالمي، الحركة المناهضة للعولمة الرأسمالية وضد السيطرة المحكمة للاحتكارات المتعددة الجنسيات، النضال ضد أسلحة الدمار الشامل ومن أجل لجم المجمعات الصناعية العسكرية في الدول الغربية، اتساع نشاط المنظمات غير الحكومية وتعاظم دورها داخل المجتمع الرأسمالي وفي مناطق العالم الأخرى، حركة الحفاظ على البيئة، الحركة العالمية من أجل حقوق الإنسان، الحركات والمدارس العديدة المرتبطة بقضايا المرأة والنوع «الجندر» والشباب والطلاب…الخ. فهذه القضايا، وغيرها، توحد قوى جماهيرية واسعة وعريضة من مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية.
ثانيا: إقامة نظام ديمقراطي تعددي تسود فيه مضامين ومفاهيم المجتمع المدني الديمقراطي، وما يستتبع ذلك من ترسيخ لمبدأ التداول الديمقراطي الدستوري للسلطة والاحترام المتبادل بين الأحزاب والتنظيمات
المختلفة، واحترام حقوق الإنسان وحق الشعب وحريته في اختيار الطريق الذي يرتضيه.
ثالثا: تجسيد قوى التغيير هذه في قوام وبرنامج ملموسين، أوسع بكثير مما كان متعارفا عليه.
ولا شك أن البعض سيتساءل منزعجا: ولكن أي مشروع فكري ستستند عليه قوى التغيير هذه؟ فأنت تتحدث عن قوى متعددة المدارس والمشارب الفكرية، بل أن أقساما منها متباعدة المسافات الفكرية؟! أعتقد، أن الانزعاج مشروع! ولكن من الممكن تبديده إذا نظرنا بتمعن، وبحثنا بعمق، في النقطتين التاليتين:
النقطة الأولى: لا بد من الأخذ في الاعتبار أن تلك القوى المتباعدة فكريا، قد انتبهت، أولا، إلى ذات القضايا السياسية والاجتماعية المطروحة في أجندة التغيير، وثانيا، ارتضت التحالف والعمل المشترك في إطار برنامج اشتركت هي في صياغته، وثالثا، ستولد المعالجة المشتركة لذات القضايا، وفي خضم معركة نضالية، طويلة نسبيا، ستولد، بفعل تأثير ديناميكية الانعكاس الديالكتيكي، عند هذه القوى، أفكارا ومفاهيم جديدة، متقاربة المسافات مقارنة بالمسافة بين المنطلقات الفكرية عند أي منها قبل الخوض في معركة المعالجة المشتركة.
النقطة الثانية: لا أعتقد أن تعدد المدارس والمنطلقات الفكرية لقوى التغيير سيفضي، بالضرورة وحتميا، إلى وحدة فكرية بين هذه القوى. ولكن، ما أعتقده جازما، كما بينت التجربة الملموسة في مصر وتونس، أن ذلك لن يقف عائقا أما صياغة وتنفيذ البرامج المشتركة بين هذه القوى. بل، وفي اعتقادي، فإن البرنامج الواحد الذى سيتغذى من مدارس فكرية متعددة ومتنوعة سيكون أكثر ثراءً وأكثر جدوى من أية وحدة فكرية لا تتحقق على أرض الواقع.
وفي المقال القادم سنكمل استنتاجاتنا حول قوى التغيير بنقاش البرنامج البديل الذي ترفعه هذه القوى، وذلك من وحي التجربة الملموسة في انتصارات ثورات شعبي تونس ومصر، وفي انتفاضات شعوب المنطقة الأخرى التي هي في طريقها إلى الانتصار.

الصحافة

تعليق واحد

  1. ان اهم اجندة التغيير التى يمكن ان يتوافق
    عليها الجميع—–هى الحرية والديفراطية والشفافية
    والعدالة

  2. … يوم امس الموافق 24/4 كان مكتوب فى لوحة اعلانات دار الرياضة امدرمان اعلان عن مباراة هى (( الحرية ضد الاحرار )) والجماهير تتدافع لمشاهدة هذه المباراة !!!! فضحكت وشر البلية ما يضحك … قال تغيير قال

  3. ما اوردته صحيح في مجمله يا دكتور. لكن وكما تعلم فإن هذه القوي المتباينة والمتحالفة لن تظل في موقع المعارضة السهل تسبيا فستجري انتخابات ترفع بعضها الي سدة السلطة ويبدأ التباين بين الحكومات والمعارضات ونامل ان يلتزم الجميع باللعبة الديموقراطية لكن واقع المجتمعات العربية لايؤيد ذلك. ومن غير الدخول في تحليل المستقبل يجب التركيز علي احترام الديموقراطية والتعددية.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..