(سِفْرُ الأحزان)..ما أشبه الليلة بالبارحة

بسم الله الرحمن الرحيم
في خواتيم عام 1994 ..ونحن في جمعية الموسيقى والمسرح بكسلا بنين..نبحث عن نص مسرحي نشارك به في منافسات الدورة المدرسية .. جاءنا خبر صاعق ..أن أباً لثمانية أطفال..انتحر بعد أن نفق حصانه الذي كان يعتمد عليه في جر عاربة الكارو ولم يجد معيناً يعوضه.. هزتني الفاجة ..لكن وجدت الأمر مناسباً ..كلفت عضو الجمعية تلميذي عمار المبد ع المتميز بكتابة نص مسرحي يتناول الواقعة ومسبباتها..واشترطت عليه ألا نسمح بانتحار البطل في نهاية العرض..وإلا ..نكون من المقرين بالهروب بالموت..وكلما اتاني بالنص …أبديت ملاحظاتي ليعدله..فصار نصاً رائعا..لكن لأنه كان قد تم استقطابه لتميزه رئيساً لاتحاد الطلاب الموالي للنظام..حوصرت دواخله كنتاج طبيعي لالتزامه ..فجعل العوامل ذاتية.. فلم يكن أمامي إلا إضافة العوامل الموضوعية في قصور النظام ومؤسساته الاجتماعية في التفاعل مع حاجته في ظل ضغوط المعايش إلى النص ..فوافق لعلاقة احترام متبادل بيننا وقرر أن يدافع عما كتبنا أمام أعين ناقلي التقارير وقد كان..وأسماها سَفر الحزن فرأيت بعد موافقته أن اسميها (سفر الأحزان )كما في العنوان ..واخترنا الاستاذ هارون ميرغني مخرجاً ..وأبدع الطلاب خاصة البطل طه محقر..في التفاعل مع النص إلى درجة ذرف الدموع الحقيقية أثناء البروفات دعك من العرض ..
وكانت جملة الختام لممثل يخرج ن بين الجمهور لينقذه وهو ينتحر قائلاً( لا تمت..ومن سيبقى إذا ما مت أنت..أتكئ على كتفي ..ستزدهر الشواطئ من جديد)..وفازت المسرحية لتمثيل الولاية في نهائيات بورتسودان 1995 لكن الوالي رغم أنه كان معجباً بالمسرحية. لحبه للأدب ورقي لغة النص الفصيحة .لاحقته التقارير فجاءنا في المعسكر وهددنا بالويل إن لم نعدل النص..فعدلنا النص قليلاً مع عدم الإخلال بالسياق فضعف قليلاً.
سقت هذا السرد الطويل بعد ان فجع الضمير الوطني بانتحار ثلاثيني في شارع القصر مردداً ..(أنا سوداني ..والبشير ديكتاتور)..فرددت مفجوعاً سبحان الله ..ما أشبه الليلة بالبارحة.. لكن علينا بعد أن نترحم عليه ونبتهل إلى الله أن يتقبله ويلهم أهلة حسن العزاء..أن ننبه إلى أنه مهما كانت الضغوط..فعلينا ألا نصل إلى مستوى اليأس الذي يجعل الهروب بالموت حلاً..وإلا رزئنا في أبنائنا المتوسمين البطولة في الفعلة ..ولنردد جميعاً (من سيبقى إذا ما مت أنت)..فعلاوة على حرمة قتل النفس..فإن فيه ضعفاً للحيلة واستسلاماً لا ينبغي لثائر أن يركن إليه..ويقودنا هذا إلى إبداء ملاحظة مهمة وهي ..البحث في سبيل الثورة عن نماذج جاهزة..فما أن يشعل شاب النار في جسده حتى نسميه بوعزيزي السودان ونظن أنه سيفجر الثورة كما في تونس..وما أنت تنجح دعوة للعصيان وتجد الاستجابة ..حتى نظن ان النظام سينهار..ما يؤدي إلى يأس البعض إن لم يحدث..وما ان تقوم حركة معارضة مسلحة..حتى نستدعي كابيلا وموسوفيني وكيف تسلموا الحكم بالزحف على العاصمة..كل هذه النماذج لها دورها في الثورة..ولكن الثورة لن تنجح إلا بالعمل المضني الذي لا يعرف اليأس إليه سبيلاً ..لتتم التعبئة ..وتتضافر كل العوامل لاسقاط النظام ..فعلى شبابنا الذين نعول عليهم كثيراً بعد الله أن يتنبهوا ..ويعلموا أن في حياتهم أمل البلاد ..و( ..ستزدهر الشواطئ من جديد) والعبارة من قصيدة للشاعر الراحل كجراي رحمه الله
[email][email protected][/email]