أنا أسود أصلي وهو «دؤلي»

عندما طلب مني الأستاذ فراس أبو هلال أن أكتب في صحيفة عربي 21، التي تصدر من لندن، قلت له: عربي 21؟ أحيي فيك التفاؤل، بالقفز بنا من عصر البخار الى القرن الحادي والعشرين، ولكنه قال لي كلاما كثيرا عن سياسة الجريدة التحريرية، وكان من بين ما قاله إنها تهدف في ما تهدف، إلى ترسيخ مكانة اللغة العربية بين أهلها، فوجد كلامه هذا هوى في نفسي، ومن ثم ذبحتكم على مدى أربعة أيام متتالية بمقالات حول العربية، رغم أنني أعرف تماما أنني لست من بين أفضل أربعين من الكُتّاب في الصحف السودانية تمكُّنا من العربية.
وأنا سوداني، أي أنتمي الى أحد أفقر بلدان العالم، بل بلد يتقدم كل سنة، عشر سنوات الى الوراء، حتى كاد يعود الى العصر الحجري الوسيط، ولكنني أحب وطني من كل قلبي، وأعتز بالانتماء إليه، وكان بإمكاني الحصول على جواز سفر بريطاني في تسعينات القرن الماضي، ولكن لم تكن حكومة بلادي تسمح وقتها بازدواج الجنسية لمواطنيها، فكان علي أن أتخلى عن جواز سفري وجنسيتي السودانية، مقابل ان أصبح من رعايا التاج البريطاني، وبدون تردد اتخذت القرار الذي لم أندم عليه قط: لن أتنازل عن جنسيتي السودانية (وجلب علي ذلك الاتهام بالبله والخبل، وهناك من قال إنني اتخذت القرار الخطأ لأنني من ذوي الحاجات الذهنية الخاصة)
(أتذكر هنا الشاعر الأموي جرير بن عطية، الذي أتاه أحدهم في بيته، وسأله: من أشعر العرب؟ فقاد جرير السائل الى حيث مربط البهائم، وأشار الى رجل رث الثياب وبائس المنظر، يرضع «مباشرة» من ضرع معزة، وقال ما معناه: إن إنسانا يفاخر بمثل هذا الأب جميع شعراء العرب ويفحمهم، لهو أشعرهم)
وأحب اللغة العربية، رغم أنها ? كما ذكرت مرارا ? ليست لغتي الأم، ولكنها قدمت لي ما لم يكن الجواز البريطاني سيقدمه لي: الانتماء إلى قبيلة كبيرة تعيش ما بين طنجة والمنامة، بل والزعم بأن المتنبئ وليس كافور الإخشيدي من أقاربي، بل والتباهي بأن أول من وضع قواعد النحو العربي، ظالم بن عمرو بن سفيان، اختار لنفسه اسم «دلع» هو أبو الأسود الدؤلي، فلو كان هذا العربي القح، لا يرى بأسا في أن يوصم بالسواد، فلِم لا يجوز لشخص أسود «أصلي» مثلي أن يتباهى بالانتماء الى أمة العرب، رغم أن معظم أفرادها يستعرون من السود! ويدعون أنهم نسل عدنان وقحطان، ولكنهم يقومون ب»التعدين» في مناجم اللغات الأجنبية، ثم يتكلمون ويكتبون عربية مصابة بالقحط.
وما من جهة ألحقت العاهات بالعربية كوسائل الإعلام العربية في عالمنا المعاصر، كم مرة فُجعت بكلمة «تفاجأت»، وتفريعاتها تفاجأنا وتفاجأتم، من نفر يحسبون أن بناء كلمة «فاجأ» للمجهول يفقدها عنصر المفاجأة، فلا يقولون فوجئت، وفوجئنا وفوجئتم، وما قولك في تأنيث «احتمال»؟ وأي ذنب جنت الكلمة لتصبح مؤنثة في مجتمع يضطهد الإناث؟ ما العيب فيها حتى تصبح «احتمالية» تقوم مقامها دون سند قانوني أو تاريخي؟ وكيف تتصل على فلان، أو تتصل عليك فلانة؟ هذا قد يكون جائزا في العامية التي ترفض المثنى وتجعله «جمعا»، ولكن العربي يتصل «ب»فلان وتتصل «به» فلانة.
صار الإعلام العربي يحسب ان الإبداع يعني اتيان «البدع»، فصارت عبارة من شاكلة «موقف كهذا» موضة قديمة، وحلت محلها عبارة «هكذا موقف»، وهي عبارة مجهولة الأبوين، ولأن الوقت عند إعلاميينا من ذهب، ولأنهم يميلون الى ترشيد الإنفاق، فقد صاغوا كلمة الركمجة لأن «ركوب الأمواج» عبارة طويلة وكثيرة المفردات، وكان الاتحاد العربي للاتصالات، قد تمخض فولد كلمة هجينا خديجا، ماتت سريريا فور ولادتها، وتلك الكلمة هي «الطبقصلة» لتقوم مقام «فاكس»، وقالوا إن تلك الكلمة التي تسبب البلعوم لمن ينطق بها، اختصار لكلمتي «طبق الأصل».
الصحافة

تعليق واحد

  1. أبو ” الجعافر ” ، ياجعفر بن عباس ، ما لنا ومال لغة الضاد ، مادامت هي لغة أعجمية ، تعلمناها في المدارس .هذه الفصاحة منذ لقمان عليه السلام أقعدتنا عن هويتنا النوبية، فاصبحنا ملوكا للعربية أكثر من العرب ، فدع زيد يضرب عمرو كما يشاء فنحن في الذيل مهما تفاصحنا .

  2. اتفق معك في كل ما ذكرته يا أبو الجعافر، إلا في عبارة هكذا موقف، والتي أرى حسب رأيي المتواضع أنها من باب التجديد في اللغة وعدم التحجر طالما أنها تفيد المعنى، فاللغة كما تعلم كائن حي يتأثر ويؤثر، واللغة التي لا تتطور وتواكب المستجدات والعصر وتغير جلدها تندثر كما اندثرت مئات اللغات. وهذا ما يضفي على اللغة الإنجليزية هذا الزخم والهيمنة والإنتشار والتمدد في كل الثقافات لحربائيتها وما تضيفه إلى قاموسها من عشرات آلاف التعابير الجديدة والمتحورة والكلمات المستحدثة دون أن يعبأ الإعلاميين خصوصا الامريكيين بانتقاد المتحجرين اللغويين البريطانيين.

  3. يكفى انها لغة القران ، والذي يحتم علينا معرفة حلاله وحرامه وايضا معرفة معانية للفلاح في الدنيا والاخرة .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..