المالية تُصحّر السودان

المحزن في القصة كلها، والجالب للأسى، ليس تفجر الصراع وانهمار نوافير الدم بين قبيلتي الحمر والكبابيش، الناتجة عن مقتل أكثر من مائة شخص، ولا هو غليان المشهد القبلي بين الرزيقات وبين العقاربة وبني جرار، والذي راح ضحيته أكثر من خمسة أشخاص، وإنما المحزن أن هناك من هيأوا أنفسهم للاستوزار والمناصب في حوار المحاصصة الوطني، دون أن نرى منهم أو نسمع أن أرجلهم تغبّرت في سبيل إيقاف حنفية الدم المجاني المُسال في عدد من مناطق السودان، فتباً لكل من ينظر إلى الكيكة، ولا ينظر إلى وجع الغلابة..!

نعم تباً لهم، لأن الواقع يحتِّم على الحكومة وعلى وافديها الجدد، ممن لم يجربوا الاستوزار أو المسؤولية العامة، أن يطالبوا بإيقاف كل الإجراءات المتعلقة بحكومة الوفاق الوطني، من أجل إطلاق مبادرة فاعلة لإنهاء الصراع القبلي الذي انتظم عدداً من المناطق، وتسلل إلى بعض المكوّنات القبلية والديمغرافية التي كانت في حصنٍ حصين من تلك الجرثومة اللعينة..!

بل إن المنطق أن ينخرط الذين وقّعوا على الوثيقة الوطنية، ليس في تجريم أو إدانة تلك الأحداث الدموية، وإنما في البحث عن مسارات عملية وفعّالة لإيقاف الموت المجاني بعدما تساقطت أرواح الشباب وأجسادهم مضرجة بالدماء..!

تُرى كيف للوافدين الجدد إلى حكومة الوفاق الوطني أن يهنأوا بالمناصب والاستوزار، بينما البلاد تنهشها الصراعات القبلية، وتكبلها في مربع الانتصار إلى الجهة والجنس، على حساب الدين والإنسانية..! وكيف لهم أن يتمرغوا في نعيم السلطة، وهناك مناطق تسبح في بركة من الدماء..!

سيقول قائل: إنني تحاملت على الوجوه الجديدة التي ستدخل إلى حكومة الوفاق الوطني، وظني أن هذا قول صحيح مائة بالمائة، وله ما يسنده وما يبرهن ببساطة لأن الرهان على المؤتمر الوطني ووزرائه في تتريس حالة الموت العبثي، رهان على جواد خاسر، فقد تم تجريبه في هذه المضامير، فلم نصطاد سوى مزيد من الخيبات.

طبعاً لست في حاجة إلى التأكيد على أن الحزب الحاكم هو المدان الأول في هذه الأحداث كلها، وذلك من خلال سكوته على انتشار السلاح بيد المواطنين، حتى أصبح من الطبيعي أن تملك بعض القبائل جيشاً جراراً مزوداً بالأسلحة خفيفها وثقيلها. وأظن أنكم تعلمون أن الصراع بين قبيلتي الكبابيش والحمر جعلنا نرى عربات الدفع الرباعي المملوكة للقبائل والمزوّدة بالأسلحة الرشاشة في حالة لا يمكن أن تحدث إلا في الصومال أو اليمن أو السودان وليبيا، أو في الدول الرخوة أو الفاشلة. ولكل ذلك يبقى من الطبيعي أن نرسل اللوم إلى الوافدين إلى الحكومة، وليس إلى القاسم المشترك الأعظم في النكبات والخيبات، علهم يكونوا ? أي الوجوه الجديدة – سبباً في تغيير بعض الكوارث والأزمات التي تموضع فيها السودان بسبب السياسات الخاطئة طوال ثلاثة عقود من الزمان.

أعود وأقول إن الحاجة ماسة أكثر من ذي قبل إلى العمل على كبح جماح الاقتتال القبلي، خاصة أن ما يحدث الآن، هو إنتاج لسيناريو يُشابه كثيراً الحالة الدارفورية. بل إنها أسوأ من تلك الحالة إذا نظرنا إلى أسباب الصراع، ذلك أن القتال في دارفور لم يخل من الطابع السياسي المطلبي. أما ما يجري الآن فهو قتال من أجل القبيلة، ومن أجل الجهة والمنطقة. وهنا تكمن الكارثة.
الصيحة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..