رسالة حبّ

ثلاثة أيام بالدندر خضتُ فيها تجربة مُختلفة ،خلعتُ معطف ترددي الساذج ، ومحوتُ بعض معتقداتي الماضية ، صحيحٌ أنني وُلدت في الخرطوم ، إلا أنّ هوايا ( قروي ) بحت ـ كما يقولون ـ فالناس هناك مُختلفون جداً ، لا يشبهوننا في شئ ، طيبون حد الساذجة ـ هكذا ننظر إليهم نحن أبناء المدن ـ جوادين رغم فقرهم ـ ينطبق عليهم قوله تعالي : ( وَ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) ، ولو كانوا ينامون في ( رواكيب ) القَش ، بيوت الطين ، يقضون جُل يومهم أمام ( الكرجاكات) بُغية (باقة) موية وااااحدة ، ثم يظلون الليل نصفه يترجون (البابور) إلا ينقطع (عشان يحضروا الكورة ) …
على طُول الطريق الذي في نهايته تبدء حدود محمية الدندر ، ولقُرابة الخمسة ساعات لم نعطش قط ، في كل قرية كنا نجد من يمد لنا (جك) الموية ، يأتون مهرولين وإبتسامتهم تعلو أفواههم ، يسبقها السؤال المحبب لي (جايين من الخرتوم ) ؟ ، فنرد نحن بغباء مصطنع بنعم نحن من هناك ، من مكان يٌباع فيه ( كوز ) الموية بجنيه ، وفي عز هجيرها ذاك ، لن يقف أحد ليسألك من أين أنت ولو من باب الفضول …
نُحرت لأجلنا الجمال ، ومن نار الحطب أكلنا ( لحمها ) في قرية التكمبري ( كل زول في بيته فنجري ) ـ هكذا يردد أهلها ـ فلا غاز هناك ، وشلنا الفاتحة مع شيخ الحلة . أستقبلونا الأهالي في القرى العشرة القابعة داخل محمية الدندر بالرغم من معاناتهم بالتُقابة والذكر ، رقص أطفالهم حفاة القدمين على النُوَبة و ( لا إله إلا الله ) ، ومن مزارع ( قلع النحل) قطفنا ثمار (المنقة) ، ولأننا لم نصادف موسم الجوافة مازحتني أحداهن قائلة (حقك محفوظ لماتجي المرة الجاية) ، وكأنها تعلم أني سأعود !.

في كل ولاية أزورها يبقى القاسم المُشترك شيئان أثنان … ذاك الفقر المتمكن من عظم الأهالي ثم الطيبة والكرم الفياض ، متناقضان لا جامع بينهما ، طرحت السؤال بصوتاً عالي ، فسمعني ( أبو محمد ) ذاك المستثمر السوري ، فقال مُجاوباً ( هووون كِل شئ في … بس مافي مصاري ) ، فقلت له ( في مصااااااري ) زي التراب ، زي خيرنا الماليه حد ده … زي أراضينا الشااااااسعة المممتدة دي ، قدر نهر ( الدندر ) القدماك ده … بس ماااافي ضمير .

وياااااا شعب الجميلة .. سلامي بمد أرواحكم الطاهرة والضحكة النقية ، إليكم يا كل الطيبين الصابرين الباقيين الصامدين رغماً عن الإهمال ـ لن أقول الظروف ـ . أقول لكم إنّ « الفرح » آتٍ لا محالة ، فدائماً لكل شئ نهاية … هكذا تقول القائدة ، وكلما مرّ يوم وأشرقت شمس، يُكون ميعاد الفرح أقرب … أو هكذا أظن .
بلادي أنا
بلاد ناسا في أول شئ
مواريثهم كتاب الله
وناسها حنان ،يكفكفوا دمعة المفجوع
يبدوا الغير علي ذاتهم
يقسموا اللقمة بيناتهم
ويدوا الزاد ، حتى إن كان مصيرهم جوع
بلادي أنا ، بلاد ناساً تكرم الضيف .
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. لك التحية والاحترام أستاذة سلمى على هذه اللفتة البارعة
    والتحية كذلك للأهل بالصعيد حيث الطيبة والتسامح والكرم اللامحدود
    نسأل الله أن يرفع الظلم عن الأهل في الصعيد وفي دارفور وفي كل أنحاء بلادي الحبيبة
    فمهما طال الظلام لابد أن ينجلي

  2. يأتون مهرولين وإبتسامتهم تعلو أفواههم

    طرحت السؤال بصوتاً عالي

    صدقيني لو صورت هذه الرحلة في فلم قصير سوف يكون حديث الساعة.

    في انتظار الفلم.

  3. هههههه كلام جميل بما ان تلك الصفات ليس بغريب ان المجتمع
    السوداني بل صفات موروثه بالفطرة هذا شئ لا غبار عليه.
    قبل فترة كنا انا وصديقى نسترجع الذكريات ونحن نرتشف القهوة
    في احدالرواكيب المتواضعه (جنبه)كما يحلو تسميته عند الشباب
    سكت برهة ان الحديث وعاد متسالا انت تعرف ما هي نقطه ضعفنا كسودانيين …؟
    وعاد يجاوب علي نفسه (الطيبه)لدرجه الساذجة هذاهو يا صديقي…؟
    ان الاوان لتغير ذلك ان اردنا ان نسلم من كل المصائب التي نتعرض لها بسبب تلك الساذجة التي يدعي (الطيبه)
    منذ ذلل الوقت وانا اسال نفسي كيف ذلك …كيف ذلك بربكم …؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..