مفاوضات الخرطوم وجوبا

تأخذ المفاوضات المرتقبة بين الخرطوم وجوبا والتي ستنطلق في أديس أبابا الأسبوع المقبل، أهمية قصوى، لكونها لا تتعلق فقط بتحديد شكل العلاقة بين الطرفين، بل لأنها ستسهم ? حال نجاحها ? في رفع العقوبات الأمريكية كلياً عن السودان.

وليس خافٍ أن الإدارة الأمريكية رهنت رفع العقوبات الاقتصادية عن السودان كلياً، بإيفاء الخرطوم لعدد من الشروط. وليس خافٍ أن تلك الشروط تضمنت مطلباً بتحسين العلاقة مع جنوب السودان، والنأي عن التدخل السالب في الشأن الجنوبي. وهو ما يعني أن الحكومة السودانية ستدخل ? مجدداً ? إلى مختبر الإدارة الأمريكية لفحص ذلك الشرط، وللتأكد من حدوثه أم لا، خاصة أنه يعد من أصعب الشروط الموضوعة من قبل أمريكا، لأن الخرطوم نشطت منذ أزمنة طويلة في مكافحة الإرهاب ومحاربة الهجرات غير الشرعية، بل إنها حققت في ذلك بعض التقدم، وفقاً للمعايير الأمريكية.

ولكن المتفحِّص لعلاقة الخرطوم وجوبا حالياً، سيلحظ أن الدولتين في طريقهما لتجاوز جبال القطيعة النشطة، والعداء البارد، الذي وسم العلاقة بينهما طوال الفترة التي أعقبت انفصال جنوب السودان، بل إنهما شرعا في تأسيس مرحلة التطبيع الحقيقي، وليس الصوري كما كان يحدث سابقاً.

صحيح أن التطبيع الكامل يبدو مشروطاً ورهيناً ببعض المطالب، لكن تلك الشروط لا ترقى لوصفها بالتعجيزية، بل هي في مقدور الطرفين، حال تيقّن كل منهما بأهمية التطبيع. ومن هنا يمكن أن تنبني جذور الثقة، خاصة بعد قرار فتح الحدود بين الدولتين. وهو قرار ? كما تعلمون ? فيه مصلحة وفائدة الطرفين وخصوصاً الخرطوم، ذلك أن الخبراء يتحدثون عن أن السودان سيقطف ثمار التجارة الحدودية متى هدأت الأوضاع، لجهة أن جوبا تُعد سوقاً فسيحاً للمنتجات السودانية، وهو ما يعني ? بحسب الخبراء ? أن الخرطوم ستجني عائداً يصل إلى ثلاثة مليارات دولار، إذا بلغت التجارة بين البلدين كمال العافية.

وهذا يعني أن الحاجة ماسة جداً للحفاظ على شمعة العلاقات متقدة، إن لم يكن من باب مساعدة الدولة الوليدة التي انزلقت إلى هاوية الجحيم والدمار بسبب فشل ساستها، فليكن ذلك لتفادي الآثار التي يمكن أن تترتب على السودان، جراء الحرب في تلك الدولة الرخوة، أو أقله من باب الحصائد المليارية التي ستجنيها الخرطوم من تجارة الحدود.

الثابت أن هناك ظروفاً استثنائية تحتّم على الطرفين أن يتمسكا بما أنجزاه من تطبيع، وأن يبذلا كل غالٍ ورخيص لعدم إهدار سانحة التقارب، ولعدم العودة إلى مربع القطيعة النشطة أو القطيعة الباردة. وليس خافٍ أن الخرطوم وجوبا تعيشان أزمة اقتصادية طاحنة، تعصف باستقرارهما، وتوشك أن تجعل منهما قطعة من جحيم، وهذا ما يدعم فرضية تحالف الجوع والأزمات الذي يمكن أن يكون سبباً في ترسيخ العلاقة بين الطرفين، من أجل إيجاد الحد المعيشي الأدنى لمواطني الدولتين، فالجميع ? هنا وهناك ? في حاجة ملحة إلى تجميع الموارد الشحيحة لتوفير القدر المطلوب من الاستقرار. وظني أن هذا الأمر ضروري لتعويض هدر الموادر في الحرب وفي القطيعة.

صحيح أن هناك عوامل كثيرة يمكن أن تحيل التقارب بين جوبا والخرطوم إلى قطيعة، ولعل أبرزها التوادد ? المعلن والخفي – بين جوبا والحركة الشعبية ? قطاع الشمال، وبين الخرطوم وبعض التشكيلات السياسية في جنوب السودان، لكن ذلك ليس كافياً لنسف العلاقة الودودة بين الخرطوم وجوبا، إذا خلصت النوايا، لأن ممسكات التقارب ومسبباته أكبر من مهدداته، ولجهة أن الخرطوم وجوبا يمكن أن تؤثرا في الفرقاء وأن تحثهما على الجنوح للسلام. ومن هنا فقط يمكن أن تبدأ عملية بناء علاقة حميمة راسخة بين الدولتين، تقوم على ركائز إستراتيجية، حتى لا تعصف بها أيما متغيرات عابرة، وخصوصاً التفلتات الحدودية أو المهددات الفردية، التي لا تمثل رأي وموقف الدولتين.

الصيحة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..