تفكير خاطئ..!

تتلبّسني قناعة راسخة بأن أغلبية الكيانات المناطقية التي أفرزها الصراع السياسي والتنظيمي رجس من عمل المؤتمر الوطني، ولذلك هي مدانة عندي وإن تمكنت من وضع الأمور في نصابها ومسارها الطبيعي. وكل ذلك انطلاقاً من قناعتي الخاصة بعدم جدوى المنابر المناطقية، وإيماناً بضرورة أن ينصهر الناس في تنظيم حزبي قائم على مشروع سياسي أو فكرة أو برنامج، بدلاً من الرهان على كيان جهوي.
وحينما بلغني أن جرثومة الكيانات المناطقية وصلت إلى ولاية الجزيرة، كذّبت الخبر، وقلت في نفسي إن الجزيرة تعافت مبكراً من جرثومة المناطقية، وتحصّنت في أزمنة باكرة من داء الجهوية، ولذا من غير المنطقي أن تقع الولاية التي تمثل نموذجاً للتنوع والتعدد والقومية، في ذات الفخاخ المناطقية المنبوذة، وأن تنحدر إلى البراثن الجهوية المرفوضة. لكن ثبت أن الجزيرة لم تسلم من داء الكيانات المناطقية، وتأكد لي أن هناك من يجد نفسه مجبراً للتعاطي معها، ومضطراً للتسليم بها، وخاصة بعدما سمّم المؤتمر الوطني الحياة السياسية، وبعدما أفرغ الأحزاب من فاعليتها المجتمعية ونزع عنها صفتها كمنظومة سياسية ومجتمعية جامعة..!
الثابت أنه ما كنا سنصل إلى هذا الدرك السحيق الذي تمددت فيه القبلية والمناطقية داخل المشهد السياسي والمطلبي والاحتجاجي، لولا أن اليد الباطشة غابت، ولو أن المساحة تُركت للأحزاب لتعمل بحرية.! ببساطة لأن الأحزاب كفيلة باستيعاب كل المكونات الديمغرافية في وعاء واحد، دون ممايزة بالقبيلة، ودون انتصار للجهة أو استنصار بالمنطقة. بل أن الحاكمية كانت ستكون للكسب الفكري والعطاء الحزبي. لكن ماذا نفعل مع من يملكون القدرة على ضرب الثوابت في مقتل، من أجل التشبث بكراسي السلطة، دون أن يطرف لهم جفن، ودون أن يلين لهم جانب، حتى في عز نزيف الدم، وتنامي الضائقة المعيشية التي أوشكت أن تحيل السودان إلى معكسر للنازحين داخل الوطن، مع أن البلاد مرشحة لأن تكون سلة غذاء العالم.
المؤسف أن الكيانات الجهوية والمناطقية أصبحت واقعاً يمشي بين الناس، بعد أن نقشت اسمها بأحرف بارزة في المشهد المطلبي والاحتجاجي. بل أن الإعجاب بتلك المنصات الجهوية والمناطقية لم يعد منكوراً لدى كثيرين، بعد أن ملأت الفراغ العريض الذي نتج عن تغييب الأحزاب عن المشهد السياسي والمجتمعي. ولعل ما جعل أكثرية تلك المنصات أجدر بالاحترام ? عند الكثيرين – هي منافحتها الفارقة عن مكتسبات مواطنيها، في ظل التعديات المتصلة على مخصصات المواطنين من قبل الحكومة وبعض منسوبيها. وهنا يكفي الإشارة إلى ما حدث من أهالي الشجرة والجريف شرق من تظاهرات مناهضة لتعديات يقولون إنها طالت أراضيهم.
المثير في أمر الكيانات المناطقية أنها أصبحت ملاذاً يلجأ إليه الكثيرون لانتزاع حقوقهم، والمثير أكثر أنها تجد المباركة من فاعلين داخل المؤتمر الوطني، وخاصة من لهم علائق مجتمعية وجهوية بها، مع أن الفكرة نفسها تبدو غير متسقة من المنطق السياسي والاحتجاجي السليم، ذلك أنها يمكن أن تتحول ? وهذا راجح جداً ? إلى خميرة عكننة، متى ما استقامت الأمور، وانسابت الحريات، وشُيّدت دولة القانون والعدالة الاجتماعية، ولو بعد حين..!
الصيحة