حنبنيهو ال بنحلمبيهو سنواتي «1»

رغم أنها أكبر جزيرة نيلية على امتداد النهر العظيم، من بحيرات فيكتوريا وألبرت وتانا، الى مصبه في البحر الأبيض المتوسط، إلا أن بدين لا تظهر في الأطالس القديمة، ويرجح الجيولوجيون وغيرهم من المختصين، أن السبب في ذلك أنها كانت جزءا اصيلا ومتصلا بكرمة ? قلب الحضارة النوبية، وأن النهر غير مجراه قبل بضع مئات من السنين، واندفع مبتلعا القسم الشرقي من أراضيها، وفصل بينها وبين كرمة، وحولها الى جزيرة، «قبلها كان النيل يجري فقط الى الغرب منها، فاصلا بينها وبين أكد وسروج، وما يؤكد هذا الافتراض هو أن النيل الذي يمر شرق بدين ما زال أشد اندفاعا من نظيره الغربي، بل ويعرف الأحياء من أهل الجزيرة أنه قضم نحو ثلثي القسم الجنوبي من الجزيرة الذي يحمل اسم سلنارتي/ وابيه، الذي اضطر معظم سكانه الى الهجرة الى منطقة كرمة في الشرق وتحديدا في قرية وادي خليل.
وعند حفر القبور في منطقة أب جاسي في وسط الجزيرة، يحدث كثيرا العثور على كميات هائلة من الأواني الفخارية متقنة الصنع، وملايين حبات الخرز الملون، مما يوحي بأن المنطقة كانت مأهولة قبل آلاف السنين، ويرجح أن موقع المقابر كان حيا سكنيا، لأنه وبعكس بقية أراضي الجزيرة لا يصلح للزراعة، ومعظم الجزر النهرية تتشكل من ترسبات الطمي عبر السنين، وتتمتع بالتالي بخصوبة عالية في كل شبر منها، ولكن بجزيرة بدين أراض قاحلة هنا وهناك لا ينبت فيها حتى العشر، مما يعزز فرضية أنها كانت امتدادا جغرافيا لكرمة التي تحاصرها الصحراء النوبية الشرقية «لدينا مساحة أرض معتبرة جنوب «بدين كنج» وشمال «سمُّون سير» صحراوية مالحة بل وأن الحي الذي يضم بيت عائلتنا يحمل اسم جدِّي مار، وجدي تعني العطرون، ومنها جاءت الكلمة العامية السودانية جردقة، فللتعريف والتوكيد يضاف حرفي «قا» في أواخر معظم الأسماء النوبية وهكذا صارت كلمة جرتي النوبية جرتق، وفتحة تصريف المياه من سبلو الى سبلوقا وألياف النخيل «أشمي» إلى عشميق)
وتثبت مسوحات جيولوجية أن النيل غير مجراه نحو عشر مرات خلال الخمسة آلاف سنة الماضية، بل هناك شاهد حي في تاريخنا المعاصر، على أن للنهر منطقه الخاص في تحديد مساراته، فالجزء الجنوبي من بدين مثلا كان جزيرة موسمية قائمة بذاتها، ولهذا يحمل اسم سلنارتيو»آرتي» في نهاية أو أول كل اسم جغرافي نوبي، تعني جزيرة «آرتيقاشا، كبرنارتي»، بل وفي القسم الجنوبي الغربي من بدين هناك جزيرة عثمان آرتي، ولكن أهل الجزيرة وبسواعدهم السمر منعوا النيل من فصلها عن بقية الجزيرة بإقامة سد ترابي عند بداية النهر الصغير الذي يبدأ من مجرى النهر الغربي، ويشق طريقا متعرجا، ثم يصب في النيل بعج حي كُبان بمسافة قصيرة، ويحكي الأجداد عن نهر صغير آخر، ما زال مجراه واضحا يلتف حول مقابر اب جاسي انطلاقا من منطقة دفِّي «كلمة تعني القلعة/ القصر، وشاهدنا في صبانا قلعة طينية عالية البنيان في ذلك الحي، تقوم شاهدا على أن حكام كرمة النوبيين، وقبل انفصال بدين عن كرمة أقاموا ذلك ال»دِفِّي» لمراقبة البر الغربي بينما هناك أكثر من دفي «دفوفة» على مشارف الصحراء في كرمة لمراقبة تحركات الغزاة قبل أن يصلوا الى الأماكن الحضرية.
وأدى جرف أطراف بدين الجنوبية الشرقية إلى ظهور عدد من الجزر التي كانت موسمية لبعض الوقت قبالة شاطئها الغربي، ولكن وبسبب ضعف التيار في الناحية الغربية، صارت تلك الجزر بمرور الزمن ثابتة وحسب قوانين المساحة والأعراف تم توزيع أراضيها تناسبيا لمن جرف التيار/ الهدام أراضيهم من الجزيرة الأم «قوة التيار من ناحية الشرق تمنع تشكل مثل تلك الجزر، فيترسب الطمي في جزيرة موقة المملوكة لأهل الجزء الشمالي من بدين».
هذه مقدمة للكتابة عن مشروع طموح، ظللنا نحلم به لسنوات «سنواتي»، نعتزم نحن أهل بدين إنشاءه بسواعدنا كما فعلنا في مجالات التعليم والصحة والزراعة، بالعون الذاتي.

الصحافة