تمخضت قاعة الصداقة وولدت فيلاً

والفيل كائن ضخم، وقابل للترويض والتدريب، ليؤدي بعض الأعمال، ولكن وبسبب حجمه الضخم، فإنه يفتقر الى المرونة في الحركة، ويصعب عليه تغيير اتجاه سيره، فيستغرق منه ذلك زمنا طويلا، ورغم أن الأفيال تبدو وديعة في معظم الأحيان، إلا أنها كثيرا ما تصاب ب»جنُّونة» وتنتابها حالة هيجان «ستامبيدstampede» فتدمر وتكسر كل شيء أمامها
والأمر الذي لا جدال حوله، هو أنه لا جديد في الحكومة الجديدة، فرئيس الجمهورية هو نفس رئيس الجمهورية (ولم يطالب متحاورو قاعة الصداقة باستبداله) ولكن نوابه الأول والثاني والثالث، هم، هم، وعندك ود المهدي وود الميرغني وموسى الشرقاوي «محلك سر»، وأكثر من عشرة من قدامى الوزراء تم تجديد عقود عملهم، ولا أفهم لماذا تم الإبقاء على بحر أبو قردة في وزارة الصحة، ماذا فعل طوال السنوات العجاف التي شغل فيها ذلك المنصب، وما علاقة تابيتابطرس بالكهرباء ؟ وكيف يبقى أحمد بلال في وزارة الإعلام وأقواله تدينه بأنه عدو حرية الاعلام؟ ثم هل إشراقة سيد أقل شأنا من تراجي مصطفى؟ ولماذا تفوز تراجي حتى بمقعد في بص ؟ هي تمثل من؟ أم أن منطق «لن نحاور سوى حاملي السلاح»، تحول إلى «ونتكافى شرور ذوي الألسنة الطويلة»؟ وما علاقة سمية أكد بالتعاون الدولي او حتى القروي، وكان دورها من قبل في وزارة الصحة، أن تنفي انعدام الدواء وتدهور حال المستشفيات، ولا نعلم كيف عرفت بتلك الأمور، وهي تقضي معظم وقتها أمام الكاميرات والمايكروفونات
وبصراحة الحكومة تلوّمت مع الأستاذ كمال عمر، الذي وطوال ثلاث سنوات «كان ماخد» الحوار الوطني مقاولة، ناطقا باسم الحوار وباسم الحكومة وباسم المعارضة الحقيقية والافتراضية، وبعد هذا كله تتصدق عليه الحكومة بمقعد في برلمان يفترض أنه منتخب؟ ألا يفترض أن لديه ثقافة قانونية أكثر من تهاني تور الدبة؟ (قرأت لكمال كلاما حاسما أنه لن يقبل باي منصب في الحكومة، ولكنني لن استغرب إذا لحس كلامه وقبل الجلوس على المقعد البلوشي)
بعد شهور قليلة من انقلاب 30 يونيو 1989، نظمت الحكومة عدة مؤتمرات تناولت معظم قضايا الوطن الملحة، وشارك فيها أشخاص ذوو شنة ورنة في مجالات تخصصهم والشؤون العامة، وكان النقاش خلال تلك المؤتمرات موضوعيا وشفافا، بعكس ما حدث لمؤتمر قاعة الصداقة، حيث اتضح، وبنهاية المداولات، أن المشاركين فيها صم بُكم، لا هم في العير أو النفير، فلم يفتح الله عليهم بكلمة طيبة أو سيئة عندما دار جدل حول مخرجات الحوار، ولكن وبعد أن أدركوا اليوم أن معظمهم تعرض للزحلقة من المناصب، بدأت حلاقيمهم تنفتح، بعد أن ادركوا ان تكسير الثلج لم يعد عليهم بالمزايا المرجوة
وخرجت مؤتمرات الحوار التي نظمها الانقاذيون في السنة الأولى من وصولهم الى الحكم، بتوصيات لو تم تطبيق جزء منها لما اضطرت الحكومة لإخراج فيلم قاعة الصداقة الهندي، وكان أهم تلك القرارات ما يتعلق بحرية الصحافة، ولكن وبانتهاء جلسات المؤتمر بدأت أسوأ مرحلة في تاريخ الصحافة والحريات العامة في السودان، فالغاية من تلك المؤتمرات كما الغاية من مؤتمر قاعة الصداقة كانت شراء الوقت، ففي عاميها الأولين كانت الحكومة الانقلابية شديدة الحرص على عدم كشف هويتها السياسية، ومن ثم كانت تلك المؤتمرات مجرد تكتيك لإعطاء انطباع بأنها حكومة «قومية»
ولما تفاقمت المشكلات الأمنية والسياسية والاقتصادية والضغوط الدولية، جاء مؤتمر قاعة الصداقة، الذي استطال، لإعطاء انطباع بأن كل قضية تحظى بما تستحق من اهتمام وتقليب لوجهات النظر، ولأن المخاض كان سيسفر عن فيل «خام»، بحاجة الى ترويض لاحق، كان من الطبيعي أن يستمر الطلق ووجع الولادة 63 يوما.
الصحافة