حسرة على زمن مضى..!

في أزمنة سابقة كان السودانيون يفاخرون بأنهم يملكون أفضل نظام للخدمة المدنية في المنطقة العربية والأفريقية. وكان الواحد منهم إذا تفحّص أنظمة الخدمة المدنية في دول المنطقة، يُسارع بمد رجليه، لأنه يكتشف ? عندها – أن الفخامة البادية على تلك الدول، لا تنطوي على نظام وظيفي دقيق وحاذق. حتى أضحى السوداني مثل “أبي حنيفة”، يبز الكثيرين، ويفوقهم علماً ومعرفة، وبذا فهو أحق بأن ينزع الوقار في حضرة من لا يستحق التأدب.

وفي أزمنة لاحقة، كانت تعتري السودانيين، حالة من الخيلاء، حينما يخوضون تجربة المقارنة بين الخدمة العامة عندهم، وعند غيرهم من الدول. والناظر إلى تلك الحالة سيجد أنها مستحقة. وسوف يقتنع بأن مباهاة السودانيين في هذا المضمار ليست منزوعة المبرر. بل أنها كاملة الدسم في الأحقية والجدارة.

والمتفحص لتاريخ السودان، سيجد أن مرويات أو مخطوطات فترة الاستعمار البريطاني، نبهّت إلى أن المملكة المتحدة، قامت بتصميم الخدمة المدنية في السودان، لتكون رأس الرمح في نشوء الدولة وتطوّرها. وجعلت منها علامة فارقة تُميِّزها عن باقي مستعمرات الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. وهذه المعلومة تحديداً، جرت على لسان أحد موظفي الاستعمار البريطاني بعد الجلاء. وهو ما عزز حقيقة أن الإنجليز تركوا نظاماً راسخاً للخدمة المدنية السودانية، لا يضاهيه إلا ما تركوه في شبه القارة الهندية.

وفي أزمنة حاضرة، تتلبس السودانيين حالة من الندم على انهيار الخدمة المدنية، بعدما داهمتها غواشي الصالح العام. وتنتابهم حالة من الحسرة على موات ذاك المشروع، الذي صُمم لينهض بالسودان، ويكون ركيزته التي يقف عليها بين أمم النفط والغاز.

ولكن يبدو أن دوام الحال من المحال، فقد تراجع معيار الكفاءة، لصالح معيار الولاء الحزبي، في مرحلة ما بعد انتفاضة أكتوبر 1964م، إلى أن بلغ قمة الانحطاط في عهد “الإنقاذ”، لتتحول بذلك الخدمة المدنية التي كانت مُصانة من جرثومة التحزب والحزبية، إلى ثكنة عسكرية، أو جهاز حزبي، يتحرك إذا تحرك الحزب الحاكم، ويسكن إذا هدأت حركته.

وربما هذا ما جعل جسم الخدمة المدنية يشكو من علل وأسقام لم تكن معروفة سابقاً، ولم تكن مألوفة قبل مجئ الإنقاذ، بل إن الأمر بلغ مرحلة أن يحوز آلاف الرجال من موظفي ولاية كسلا على علاوة بدل الرضاعة المُخصصة أصلاً للنساء، على نحو ما حدثنا عنه واليها آدم جماع في الشهور المنصرمة..!

بل إن الكارثة والجرثومة المدمّرة تغلغلت في جسم الخدمة المدنية إلى أبعد من ذلك، بحيث أن والي الجزيرة محمد طاهر أيلا – ومثله ولاة كثُر – يخرجون إلى الناس ساخطين على وجود آلاف الموتى في كشوفات الخدمة المدنية يصرفون رواتبهم وهم يرقدون في المدافن والقبور.

حسناً، فلا بأس من ترميم الخدمة المدنية، لكن هل تملك الحكومة ما يؤهلها إلى إصلاح ما أفسده الحزب الحاكم..! ببساطة لأن ذلك يحتاج إلى إرادة قومية لإطلاق أيادي الرقباء من أجل ضبط عجلة الخدمة المدنية، وتطهيرها من عديمي المؤهلات الذين أُزيح لهم المؤهلون. وأيضاً تطهيرها من أصحاب القبعات المتعددة، الذين يتسنمون أكثر من منصب، في توقيت واحد، ضاربين بكل القوانين عرض الحائط.

الصيحة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..