يوميات حرامي نحاس: محجوب ود العمدة

كنت صريع معدنيين في باكر صباي بمدينة عطبرة. أما المعدن الأول فهو الصفيح. وكنت ضمن فريق بفصل للجغرافيا بمدرسة عطبرة الأميرية الوسطي في نحو 1954 أو 1955 جرى تكليفه بدراسة مواقع إنتاج الصفيح في العالم. وكان درساً شغفت به وذقت منه لذائذي الأولى في البحث والكشف وعرض النتائج. أما المعدن الثاني فهو النحاس. وكنا نجده في طيات نفايا ورش السكة حديد التي يحملها قطار مخصوص بعد ظهر كل جمعة ليودعها الحفر التي تقع من وراء المستشفي وشرقي حلتنا وهي التمرجية بالداخلة الجديدة. فما تهل القاطرة حتى يعدو صبيان الحي إليها بعدة الشغل من لبس هَلْهَل وقدوم وسكين وقفة سكر قديمة لحفظ حصائلنا من المعدن النفيس. ونعود في العصر وجهنا يلعن قفانا من فرط الاتساخ بفحم الورش وشحومها. ثم نبيع تلك الحصائل إلى تجار النحاس وهم بكري أو ود بدق. وننعم بالمال كسباً حراً لا نتكففه من أب أو أم بأعذارهم المفضوحة.
ولم أداوم على التعدين للنحاس في الحفر. فالعائد منه دون الجهد المبذول والعرق المسفوك. وقررت وجماعة من أصدقائي أن نحصل على المعدن غلابا بسرقته من مظانه. وحكيت في حديث مضى كيف جردنا جارنا ود الحسين من أكوام نحاسه التي وجدناها بمنزل له اتخذه مخزناً لهكر كثير أكثره مما اشتراه من دلالات عرض فيها الإنجليز موجودهم من الأثاث والحاجات في 1955 قبل أن يعطونا قفاهم نهائياً. وما زلت أعجب لمهارتنا الدقيقة في تأمين السرقة بالتوقيت الذكي اللماح لها. فقد سرقنا نحاس الرجل في واضحة النهار. فذلك وقت القيلولة في المدينة العائدة للبيوت بعد صفارة نهاية الدوام في الساعة الثانية بعد الظهر تماماً. وهو وقت تنقطع فيه الرجل وتصطلي الشوارع بالحر وحدها.
وحملتني حمى النحاس وكسبه إلى مخاطرات يقشعر جسدي لنتائجها لو كٌشفت على تلك الأيام. أذكر يوماً غشيت فيه المنتزه بالحي الإنجليزي بالمدينة. وكان المنتزه برغم موقعه المميز الخصوصي مفتوحاً للسودانيين يفدون إليه في نهار رمضان خاصة يحتمون بأفيائه من حرور عطبرة الباطشة الموسوسة. وأذكر شجرة بالمنتزه بلغت من الكبر عتيا وبدأت تنهار فوق جذعها الوحيد. وقد نوّعت هنا على بيت للشاعر على عبد القيوم. وكنا نتأملها ونعجب لشيخوخة الشجر. فالشجر في صورتنا له هو مثلنا: محض صبا لا يهرم ولا يتقوس من مر السنين. وساقتني قدماي في ذلك اليوم إلى حوض السباحة المجاور للمنتزه. وتلمظ خيالي ويدايّ لدى رؤية خرطوش ماء الحوض بفمه النحاسي الغليظ المثير. واشتهيت ذلك الفم النحاسي الندي. وبقي يلح على خاطري حتى بعد أن عدت إلى بيتي. فقد استولى عليّ وكنت قد سبقت واستوليت عليه في خيالي وبعته بثمن جزيل لبكري أو ود بدق.
ولم أعد أقاوم إغراء المعدن النفيس. فعدت للحوض في يوم آخر بنية سرقة فم الخرطوش ولا نامت أعين الجبناء من حراس النحاس الأشداء. وأخذت معي نصف شوال لأخفي فيه فم الخرطوش النحاسي وحمله إلى بيتنا بعد سرقته. وغافلت من كانوا حولي ودسست الفم النحاسي الأقحواني في الشوال وانصرفت. وكان خط سيري ايضاً مما فكرت فيه. فلم أرد أن اسلك شارع النيل الذي يقود بيسر إلى حلتنا. فقد يثير الشوال فضول الشرطة التي تغشى الشارع أو حتى فضول السابلة أو زملائي وينفضح أمري. وتفادياً لهذا المصير قررت أن اتخذ طريق جروف أهل الداخلة التي تمتد ما بين دور الإنجليز ونهر النيل. وليس غريباً حمل الشوال على مثل هذا الطريق الزراعي الشاق غرابته من صبي على
شارع إنجليزي محض. ونجحت. وبلغت حلة نواوي بالداخلة بغير إثارة شبهة متطفل أو معترض.
ولكن دوام الحال من المحال. فما صعدت رصيف النيل لأسير جنوباً نحو حلة التمرجية حتى وجدت نفسي في مواجهة المرحوم محجوب السرور السافلاوي ابن عمدة الداخلة. وهو رجل ضخم العرانين طويل أجش الصوت. وشك محجوب فيّ لسبب ما. وانتهرني سائلاً عما في الشوال. واضطربت وحرت جوابا. ففتحه واستحوذ على فم الخرطوش الندي بالنحاس. وصادره مني. وعدت من هذه الرحلة المثيرة وفمي ملح ملح. وقد لقيت أرملة محجوب في زيارتي للداخلة في نهاية العام المنصرم. واسترجعنا ذكراه رحمه الله. كما أحسن إلي أخوه هاشم وأخته مريم بعزومة غداء يغني عليها محمد محمد خير في رحاب دورهم الغراء بثغر نيل الداخلة. وكنت كتبت في مرة سابقة عن ليلة زواج مريم حسناء الحي بين الثريات اللماعة على أشعة جرائد النخل، وبوح النيل حتى استشاط دنقلاوي حديث الهجرة إلى المدينة وجداً. فترقرق الدمع على خديه. وكنت أنظر إليه بطرف خفي. وذكرني ذلك دائماً بقصيدة “لوعة الغريب” للتيجاني يوسف بشير. وغريب التيجاني كالدنقلاوي أضناه الحنين إلى دياره الأولى، فعزف على القيثار، وذكر أمه وأخته في روضة معطارة كجنينة العمدة السرور السافلاوي. وهي ذكرى:
رنّقت كالندى على الوتر الباكي رفيفاً وكالأماني تارة
أطلق الوجدُ من يديها كناريّ هوى واستفز منها هَزاره
هبطت دمعة هناك وماجت نغماً مبهماً وفاضت إشارة
وإلى مغامرة أخرى وأخيرة من صباي الذي ولعت فيه بالنحاس.
ياهو الحرامي
ما احلي الصبا في مثل هذه المدن العامله الكادحة شئ من ذلك مسنا بثغر السودان في صبانا الباكر قبل ان ترفضنا المدرسة فتسقط الي مسقط راسنا مع لوعة الدرندمه في صيفها الغائظ خمسينات القرن الذي مضي !!!يد الانقاذ الاثمة جعلت من عطبرة ومدني والثفر مدن مكشمقه علي قول اهلناا اي شمطاوات رغم جهود ايلا هنا وهناك لكن حال المحازن وبركات يخزي ويفضح كل اثم !!!شكرا للمتعه الثره يا برف!!!
كونك كنت حرامي في صباك يدل على أنك من أسرة لم تحسن تربيتك
للأسف ..اقتصرت روية الكثيرون علي الذوات و اجادة فن اقتيال الشخصيات ..بعيدين من الموضوع والموضوعية و هكذا تسير مفاهيمنا و فكرنا وسياستنا…!!!
وفاكر نفسك اتغيرت ياcoilles molles؟
ماهو انت لقايت هسى بكتاباتك الهبوب حرامى “افكار” ومدلس حقائق وطبال معرس كبير ياقنوط
لله درك يا عبد الله. لقد فقد الأدب السوداني فيك موهبة كل هذه العقود التي إعتزلت فيها الكتابة الأدبية fiction لصالح الكتابة المقالية non-fiction
كتابة السيرة الذاتية narrative non-fiction هي دمج لهذين الضربين من الكتابة. هذا الأختيار موفق وممتع، وأتمني لك ذات التوفيق في أختياراتك القادمة. وشكرا
الاستاذ عبدالله متعتنا بالقصة الرائعة وهو توثيق شيق لمغامرات الطفولة .انا عندمت كنت صغيرا برعت في تصنيع عربات الحديد بموديلات محتلفة وكنا نسرق النحاس من كيبلات التلفون في غرفة تجميع الكيبل قرب منزلنا لنستخدمه كسلك رباط في صناعة عربات الحديد وكذلك كنا نقوم برحلات طويلة الى ميدان سباق الخيل لناخذ السلك من السور لنستخدمه في عمل عواميد العجلات …
ههه حرامي “ود ناس” كما يقول مستعربة النيل
“وإلى مغامرة أخرى وأخيرة من صباي الذي ولعت فيه بالنحاس”
كضاب انت مع سرقةالنحاس كنت شغوف و مولع ومغرم بى حاجة تانية يافارة-انت ومعاك السحسوس امين حسن عمر- ولا فاكر نسينا زمن الرداء القصير الضيق والردف فى العجلة