مقالات سياسية

في نقد معرفة المُسلَّمات والتلقين: حقيقة حلم كمال عمر

مستنقع الخُرافة والجهلْ والأفكار المُلوّثة
في نقد معرفة المُسلَّمات والتلقين: حقيقة حلم كمال عمر

قال كمال عمر: " الترابي جاءني في المنام ومعه الرسول "صلى الله عليه وسلم" ومسح على رأسي فشفيت".
قال كمال عمر: ” الترابي جاءني في المنام ومعه الرسول “صلى الله عليه وسلم” ومسح على رأسي فشفيت”.

كمال عمر هو عضو بارز في حزب المؤتمر الشعبي السوداني الذي جاء إلى السلطة في أعقاب انقلاب قادته عصبتة العسكرية, والتي أطاحت بالحكومة المنتخبة ديمقراطيا في عام 1989. يتبني حزب المؤتمر الشعبي أيديولوجية إسلامية تستمد قيمها و مثلها من تفسير القرآن. ومع ذلك، فإن زعيم الحزب الراحل, الدكتور حسن الترابي، كان لديه تفسيره الخاص, المثيرللجدل، والغريب في بعض ألأحيان. ليس لدينا شك في لاهوتية إيدولوجيته، ومع ذلك، يعتبره البعض بمثابة الانتهازي, المكيافيلي عندما يتعلق ألأمر بالوصول إلي السلطة.

الموجز, المختصرأعلأه كان ضروريا للتعريف بشخصية كمال عمر الاجتماعية والسياسية, وذلك لفحص ومقارنة أصل أفكاره والحلم الذي راوده, هذا من ناحية, و ما نراه نحن من واقع الحقيقة واصل المعرفة, من ناحية اخري. علاوة على ذلك، نأمل أن لا تتعلق هذه الرؤية النقدية كثيرا بكمال عمر نفسه, كشخص, بقدر تعلقها بالتفسير الميتافيزيقي, واصل المعرفة المسبقة المترسخ في اذهان مختلف تيارات النخب السودانية السياسية والفكرية.

الأحلام-أحلام و ليست حقيقية، وهي استنساخ غير واعي لتجارب حياة ?واقعة? وحقيقية. ?الواقع? هو ما نتحقق منه بحوسنا و فهمنا للمحيط الذي نعيش فيهه, وهو معيار حكمنا علي حقيقة معرفتنا للأشياء.
الواقع هو ما نعقلة بحسنا وفهمنا للمحيط الذي نعيش فيها. أن نكون قادرون علي الحكم على معرفتنا بأنها صحيحة-جيدة ومتناسقة مع الواقع، أو كاذبة-سيئة, ومتناقضة مع الواقع، علينا أن نعيدها إلى اصل بيئتها الذي اتت منه-الواقع. و صولنا لمعرفة الحقيقة المجردة تكمن في معرفتنا الاولية التي نعرضها لاختبار معيار الواقع القاسي والدقيق.

معيار الحكم علي المعرفة المبنية على أساس الحواس, ?المعرفة الإدراكية?، يكون واضحا بينا للعيان من اول وهلة: نرى، نسمع أو لا. وتلقائيا, و على الفور تَرجَعُ حواسنا الي واقع محيطها التحقق من صحة معرفتها, المصدر والوحيد للمعرفة. نرى كسوف القمر الكامل، وفي نفس الوقت, وعلي الرغم من اختلاف الزمان والمكان, نعلم جميعا أن الملايين شهدوا هذا الحدث الكوني النادر. نسمع غناء العندليب؛ نقوم بتسجيله على جهازنا المحمول,ومن ثم, وفي مساء ذلك اليوم المفعم بالامل, نسمعه للفتاة التي نحاول جذب اهتمامها. نحب لمسة رمال شاطئ البحر الندية، فنطلب من رفيق جلستنا ان يفعل مثلنا ويستمتع بالشعور الفريد. ومع ذلك، ادعى لأطفال- الرعاة الثلاثة, البرتغاليون أنهم شاهدوا مريم العذراء قبل مائة عام، بينما كانت هي قد ماتت بالفعل قبل آلاف السنين. الي يومنا هذا, وفي كل عام, ما ذال مئات الآلاف من المصلين يحجون الي ضريح ?فاطمة?, المسمي باحدي الفتيات الرعاة, ومع ذلك لا يمكننا التحقق من صحة ادعاء الاطفال الثلاثة برؤية مريم العذراء, علي الرغم من ?مفهوم? ضمنية صدقهم وبرائتهم كاطفال, ولكن التسليم والاعتقاد “الاعمي” بصحة “رؤيتهم”.

التحقق من صحتة المعرفة القائمة على المفاهيم المجردة أكثر من المعرفة المنية علي الحواس. فنحن لا يمكننا أن نسمع في يوم الأمس، او نتلمس العدل والإنصاف، أو نرى ما في وراء الجبل. في صغرنا, نكون معتمدين كُليّاً على حواسنا من أجل البقاء. وكلما نمت ونضجت خلايا دماغنا-قرصنا الصلب, أصبحت لدينا القدرة على تخزين المعلومات واكتساب قدرة التفكير ألأستنتاجي والمجرد. من خلال عملية أوجه التشابه والاختلاف يمكننا تحويل مفاهيم الوصف البسيطة, كالأبيض والأحمر, إلى مفاهيم مجردة , كاللون مثلا. ومن ثم نقوم بتنظيم هذه المفاهيم في جمل، والجمل في افكار أكثر تعقيدا, في صورة مبادئ, تعليمات عامة, استنتاجات, وتفكير افتراضي. على عكس المعرفة المبنية الحواس, فان معيار الحكم علي معرفة المفاهيم يعتمد علي مقدرتنا في ابتكار معاييرحكم اجتماعي يمكننا علي مقاسه اختبارمعرفتنا, والتحقق من ارتباطها بالواقع. المحاكم القضائية, والتي فيها نسعي لمعرفة الحقيقة الأقرب الي المطلق, تمثل احدي هذه المعيير الاجتماعية, والتي تحكم معرفتنا الافتراضية وذلك بقدر ما توفر لدينا من أدلة مادية أو ظرفية. علاوة على ذلك، ولكي نتاكد من صحة معرفتنا التجريبية, الافراضية, نلجا لبنا ء طرق بحث علمي متفق عليها (اجتماعيا), وعلي سبيل المثال ?فرضية العدم او اللأشئ? كمعيار يحكم النتائج بعملية إفادتها للحقيقة.

المعرفة الحقيقية إدراك يتم في لحظة وعينا الكلي, في حين ان الحلم يتم في لحظة الغياب التام لذلك الوعي, حينما تكون حالة اليقظة في ثبوت عميق. وبالاحري كذلك, استجابتنا لغرائز البقاء مثل الجوع والخوف فهي ليست بالفعل الواعي, ولاكنها ردود افعال فطرية, تعمل فقظ في المدى القريب والفوري؛ ردود افعال مفيدة فقط للهنا والآن. ولكي نكون قادرين على التفكير في المدى البعيد؛ أن نرى من خلال المستقبل، أو نسمع في الماضي، فإننا نكتسب معرفة المفاهيم العليا: أولا من خلال تصورنا الحسي للعالم الذي نعيش فيه، ومن بعد ذلك من خلال عملية تفكير معقد من ?جملة? المفاهيم، التعميمات، المبادئ، والتفكير الافتراضي.

الأحلام لها أصلها في الواقع، ولكنها ليست بالحقيقة لانه ليس بالامكان التحقق من صحتها بارجاعها للوقع الذي اتت منه. الإدراك البصري و السمعي يقوم على التحفيز الحقيقي, حيث نرى ما يراه الاخرون, و نسمع ما يسمعوه. ومن الممكن أيضا ان نري اشيا غير موجودة, أونسمع صوتا لايسمعة الاخرون, وفي هذه الحالة تكون معرفة ادراكنا نوع من ?الهلوسة? لعدم وجود حافز خارجي “حقيقي”. فادراكنا بالحواس قد يكون معرفة حقيقية او زائفة, واحيانا, وقد يكون ادراكنا مشوهاٌ اوبعض من ?تَوَهُم?. الأحلام تتم في حالة لا وعي منفصلة كليا عن الحواس, وبالتالي من الواقع الذي يتحقق من معرفتها.

إن حلم كمال عمر لما كان بعيدا عن المألوف إن لم يكن تفسيره لرؤية النبي محمد(صلعم) وشفائه من السكتة الدماغية بلمسة زعيمه الروحي, الترابي, محمولا علي واقع لا يمكنه الرجوع اليه. ولذلك, لكي يكون تفسير حلم كمال عمر عقلاني ومنطقي ومتجزر في الواقع الذي صنعه, كان عليه أن يكون قد رأي النبي محمد (صلعم) في شخصه, او علي الاقل تصور رؤيته في خياله الصاحي. وكما خلصنا أعلاه، فإن الرؤية بدون محفز بصري حقيقي ليس اكثر مجرد هلوسة. فلا الهلوسة، او الخيال يمكن ارجاعه لاية لواقع ملموس. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، وكذلك من أجل حجة القياس المنطقي, اللمس على الرأس، في الحلم ليس بالحقيقي. لمسة الترابي على رأس كمال عمر يمكن أن تكون قد حدثت في الواقع، كما نتوقع في العادة من معلم-شيخ إلى حواره, ومع ذلك, فإنه لا يمكن أن يكون ذلك هو السبب في عودة دورة الدم إلى منطقة دماغه المصاب بالسكته.
في ?حقيقة الواقع? اصاب كمال عمر حالة تسمى ?السكتّه الدماغية?، والتي تشمل في ما تشمل,من الدماغ, منطقتي ?بروكاس? او ?فيرنيكس? المتخصصتان في إنتاج الكلام, و المسميتان باسماء مخترعيهما. فاصابة احدي هذين المنطقتين تفقد القدرة على الكلام (حبسة صوتية). يعتمد مدى التعافي من حالة السكتة الدماغية علي درجة تلف الانسجة ،و سرعة عودة الدماء للمنطقة المصابة. من تجربة ?قياسنا الاجتماعي?, فان معظم المصابين يحققون بعض التعافي، والبعض الآخر, يكون محظوظا, ويتعافي بالكامل، وربما كان كمال عمر احدي المرضي المحظوظين الذين تعافوا بالكامل. اما علاج السكتة الدماغية ?بلمسة على الرأس? تمثل تناقضا صريحا مع الواقع, في حين اننا نعلم مسبقا انه ليس هناك تناقضا في الواقع. إذا كان حلم كمال عمر قد حدث فعلا، فكان من قبيل المصادفة أنه تمكن من استرجاع قدرته على الكلام في صباح اليوم التالي عندما استيقظ من النوم.

التمايز في قدرات المنطق والتجريد, و نوعية معايير اختبار المعرفة الااجتماعية, يعتمد على جودة واتساق وترتيب المفاهيم المُخَزنة في إدمغتنا. هذا المتغير، العالي التفكير،يكون دائماً عرضة لقرصنة المفاهيم الخاطئة وغزوات ?أفكار طروادة?. فعلى سبيل المثال، يمكن لمنطق إتساق معرفتنا أن يدافع عن حقوق متساوية لجميع البشر باعتار أن أصل وطبيعة الانسان واحدة, ولكن, وفي نفس الوقت, يمكننا أن نقبل أن تكون ألإختلافات البيولوجية أسباب مبررة للتمييز بين الجنسين. هذه الحالة من التفكير المُعقّد تتطلب ليس فقط, حالة صحيان كاملة, ولاكن كذلك قدرة عالية من التأهب الذهني لإعمال قدرات المنطق والتجريد حتي يمكن قياسها ضد ألوقع الذي انتجها حتي تصبح معرفة حقيقة.

أفكارنا هي عين وجودنا كمخلوقات ذكية. غيرنا من الحيوانات تعتمد على غريزة البقاء ومعرفة الحواس لكي تبقي على قيد الحياة. تتفاعل مع محيطها في المدى المباشر، وفي أحسن الأحوال تعتمد على ذاكرة نمطية, تحفزها غريزة البقاء, وفقط. حتى الآن، نحن البشر، هي المخلوقات الوحيدة التي تمتلك قدرة استثنائية من التجريد والتفكير والاستنتاج. ولذلك فإن معرفتنا المفاهيمية تمكننا من أخذالحكمة والعبرة من ألماضي, وألتبصر في ألمستقبل. فنحن كبشر لدينا كل شيء: غريزة البقاء، معرفة الإدراك، و المفاهيم، ولكن أيضا نتملك خاصية الارادة-القدرة على اتخاذ الخيارات.

فكرنا هو جوهر وجودنا الواعي. لذلك، أقل ما نتوقعه من قادتنا ونخبنا السياسية هي ترسيخ معرفتهم في الواقع الذي يعيشه الناس. نتوقع منهم أن تكون لديهم ?سادسة الحواس? في إستلهام العبر من ألأمس, واختراق حاجز الزمن للتحسب ليوم الغد. نتوقع من نخبنا أن يمهدو لنا السبيل لبناءعقل مليئ بمجلدات فائقة التنظيم من الأفكار، ومحمية من سوء الفهم والتناقضات بأعلى ?جدار ناري? من العقلانية واتساق المنطق. نتوقع جميعا أن يكون لدينا عقل نقدي قادرعلى تجريد الحوامل من صفاتها؛ يتجاهل الكاريزما؛ يلتفت للمبادئ والقيم, ويسال, دائما, الاسئلة الصعبة.
——-
30 /05 /2017
د. عثمان عابدين عثمان
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..