المشورة الشعبية وصناعة دستور السودان

الرأي23

المشورة الشعبية وصناعة دستور السودان

أ.د.الطيب زين العابدين

بدأت تحركات واسعة من قبل جهات حكومية ومنظمات مجتمع مدني ومراكز بحثية ومنظمات دولية، تتحدث عن دستور السودان المقبل لدولة شمال السودان، ولعل أحد أكثر عوامل الاهتمام بالدستور هو التهديد الذي قال به رئيس الجمهورية في احتفال الحصاد بالقضارف «19/12/2010م» بألا «دغمسة» بعد اليوم في موضوع تحكيم الشريعة، ولا مجال للحديث عن تنوع عرقي أو ثقافي، وأن كل من يخالف الحدود سيعاقب بالجلد أو قطع الأيدي من خلاف أو الصلب. وكالعادة فقد حدث بعد بضعة أيام انسحاب تكتيكي من ذلك الوعيد الناري، ولكن بعد أن وصلت الرسالة السالبة إلى أطراف الأرض! ووضع دستور جديد «لجمهورية السودان الثانية» يمثل فرصة طيبة لتفادي كثير من أخطاء الماضي السياسية والقانونية إن أدرك الحزب الحاكم أن الهدف من الدستور هو استقرار السودان السياسي، وليس تشديد قبضته على أمور البلاد باسم شعارات جوفاء لا يُقصد بها إصلاح ديني أو سياسي. ومن المهم في هذا الصدد أن نتذكر المشكلات والعقبات التي واجهت وضع الدساتير السابقة في تاريخ السودان منذ الاستقلال. لقد فشلت البرلمانات التعددية الخمسة المنتخبة «1954، 1957، 1965، 1968، 1985م» في إكمال عملية وضع الدستور الدائم للبلاد، كما ألغيت الأوامر الدستورية والدساتير التي وضعتها الحكومات العسكرية في عهود حكم عبود والنميري والبشير «1958 ــ 64، 1973، 1998م»، وكانت صناعة الدساتير منذ الاستقلال وحتى دستور السودان الانتقالي عام «2005م» حكراً على لجان محدودة العدد مكونة من أعضاء البرلمان أو القوى السياسية أو السلطة الحاكمة، ولم يكن هناك أي دور لقوى المجتمع الأخرى بالمشاركة في صناعة الدستور. والدستور ليس وثيقة قانونية تحدد الأجهزة والصلاحيات والحقوق، ولكنه في المقام الأول عهد سياسي بين مكونات المجتمع المختلفة يعكس قيمهم وثقافاتهم ومصالحهم وطموحاتهم، ومن ثم يرتضيه الجميع حكماً فيصلاً في تنظيم إدارة الدولة وتكوين أجهزتها وتوزيع صلاحياتها وترتيب تداول السلطة بصورة سلمية قانونية. وهو بهذا الفهم لا ينبغي أن يكون صناعة نخبوية لفئة قلية من السياسيين أو الخبراء مهما كانت أوزانهم السياسية أو معارفهم القانونية، بل ينبغي أن يكون صناعة مجتمعية واسعة وشاملة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وهذا ما بدأت تأخذ به بعض المجتمعات الإفريقية والآسيوية في العقود القليلة الماضية، مثل ما حدث في جنوب إفريقيا وكينيا ويحدث حالياً في ماليزيا.
ولأن السودان بلد متنوع الأعراق والثقافات لم تنصهر شعوبه بعد في بوتقة أممية موحدة الهوية والأهداف، ولأنه عاش كل عقود ما بعد الاستقلال في حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي وتوالي الأنظمة العسكرية الباطشة التي أضعفت كياناته السياسية والمدنية وقننت العنف وسيلة لتداول السلطة، فهو أولى من غيره للبحث الجاد والدؤوب عن دستور يعكس ذلك التنوع العرقي والثقافي، ويستوعب قيم وأهداف وطموحات شعوبه المتباينة، وتتراضى عليه كيانات وطوائف وفئات المجتمع المختلفة. وهذه عملية بالغة الصعوبة وتستغرق وقتاً ليس بالقصير حتى تصل بنا إلى تسوية سياسية مقبولة لمعظم أهل السودان في أقاليمه المختلفة، لقد استغرق دستور كينيا الجديد الذي أعلن في عام 2010م ووجد تأييداً واسعاً عند الاستفتاء عليه، ما يقرب من العشرين سنة، تعددت فيها المشروعات الدستورية والمسودات. والخوف أن يلجأ الحزب الحاكم إلى تفصيل دستور «على مقاسه» يؤمن به سلطته إلى سنوات طويلة قادمة، معتمداً في ذلك على أغلبية برلمانية كاسحة لا تعترف بشرعيتها كل أحزاب المعارضة. وستكون النتيجة المنطقية لهذه المحاولة غير الذكية، هي أن ننتهي إلى دستور «انتقالي» آخر ينتهي سريانه بانتهاء السلطة التي جاءت به، ونبدأ البحث عن دستور دائم جديد وكأننا في السنوات الأولى للاستقلال..!!
وأحسب أن تجربة المشورة الشعبية التي نصَّت عليها اتفاقية السلام الشامل لتجرى في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان التي بدأ تطبيقها بالفعل في النيل الأزرق وستجرى قريباً في جنوب كردفان، تصلح نموذجاً لإشراك القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والفئات الجماهيرية والنقابية والمؤسسات الأكاديمية في عملية صناعة دستور السودان القادم. وينبغي تشجيع منظمات المجتمع المدني المتخصصة والمؤسسات الأكاديمية والبحثية لوضع مسودات كاملة للدستور أو لأسس ومبادئ معينة يهمهم أمرها. ولكن المشورة العامة يمكن حصرها حول قضايا محددة ظلت مثار نقاش في الساحة السياسية في الماضي أو الحاضر وهي: الخيار بين النظام البرلماني أو الرئاسي، هل النظام الرئاسي يكون في شكل مجلس أو في شخص واحد له عدد من النواب؟ كيف يختار هؤلاء النواب؟ تضييق سلطات رئيس الجمهورية الحالية أم الإبقاء عليها، وما هي الضوابط لحسن استخدامها؟ هل يقوم النظام الفيدرالي على الولايات القائمة أم على أقاليم السودان الستة القديمة؟ توسيع سلطات الولايات الحالية أم الإبقاء عليها كما هي، أسس توزيع الدعم المركزي للولايات، أسس توزيع إيرادات الدولة على أوجه الخدمات المختلفة، تحديد عدد الوزارات الاتحادية والولائية وعضوية مجالسها التشريعية، مصادر التشريع هل تكون إسلامية أم علمانية أم مدنية إسلامية؟ هل يوضع دستور لكل ولاية أم يكتفى بوضع دستور موحد شامل للمركز والولايات؟ تحديد وضعية الهيئة القضائية والقوات النظامية والخدمة المدنية والجامعات وكفالة استقلالها وقوميتها، وثيقة الحقوق والحريات الفردية والجماعية وحمايتها من انتهاكات الأجهزة التنفيذية الخ… تحتاج عملية المشورة العامة حول هذه القضايا وغيرها إلى زمن وجهد وتنظيم ومال، ولا ينبغي أن يبخل عليها في ذلك مهما كان الثمن، لأن القصد هو وضع دستور يعتمد على إجماع شعبي أو شبه إجماع، ولا تخفى الفائدة من تحقيق هذا الهدف في ظل تجربة معاناة السودان السابقة طيلة العقود الستة الماضية منذ الاستقلال، ومازال يبحث عن دستور يرتضيه الشعب. وحتى يلقى الدستور الجديد مصداقيته السياسية والقانونية ينبغي أن يُجاز أولاً بواسطة جمعية تأسيسية منتخبة بحرية وعدالة ونزاهة، ثم يعرض على استفتاء شعبي عام يقره بنسبة عالية لا تقل عن الثلثين، وكذلك في حالة تعديله مستقبلاً. ومن الأفضل أن تتم العملية الشورية حول الدستور ثم انتخابات الجمعية التأسيسية تحت إدارة حكومة انتقالية قومية أو ذات قاعدة عريضة تمثل فيها كل الأحزاب التي سبق أن كان لها نواب في البرلمانات السابقة، بالإضافة إلى الفعاليات السياسية الجديدة في الأقاليم. إن وضع دستور يرتضيه الناس ويحتكمون إليه في إدارة البلاد وفي تداول السلطة سلميا وفي حفظ الحقوق وتحديد الواجبات، يستحق كل هذا العناء وأكثر.

الصحافة

تعليق واحد

  1. المشكله يا دكتور ليست برلمانيه او رئاسيه

    المشكله دينيه او مدنيه

    نحن والحمد لله على قناعه ان تقسم هذه البلاد جزء لكم لدولتكم الدينيه

    وجزء لنا لدولتنا المدنيه

    ايش رايك

  2. مقال رومانسى جدا .. الدكتور يعلم ان انظمة الحكم الانقلابيه تختصر فى شخص رئيس الجمهوريه … الرئيس هو امام المسلمين واميرهم ورئيسهم .. هو صاحب الفضل على الكل من قبل ومن بعد .. هو الحاكم بأمره ومفوض السماء لحكم اهل السودان .. هو الزعيم الخالد والدائم لما تبقى من السودان . هو الذى لم تلد النساء مئله ولن تلد .. هو الشعب وهو الجمهوريه وهو الوطن .. هو امام المتوضئين وسيد الدين والعجين .. هو الدستور .. ما يقوله هو القول الفصل الذى لا يأتيه الباطل … هو القانون وهو الدوله .. اوامره بالقتل تنفذ فورا .. واوامر رب العزة بالااااا تقتلوا النفس لا تنفذ .. هو صنيعة الجبهة الاسلاميه بنخبتها البليده .. يمتلك نخبة من الكهنوت الدينى وتجار الدين ليعملوا على رفعه اعلى عليين .. هو صنيعتكم ايها الذكياء .. لقد انتحرتم على محرابه المقدس بجبهتكم الاسلاميه التى كانت مد البصر والكل يسعى لنيل رضاها … لا تتحدث عن الدستور .. فهذه القيم الانسانيه العليا لحكم البشر .. ولا تصلح بالطبع لزريبة البشير المسماه جمهورية السودان زورا ..

  3. ارجوا شاكرا من السيد البروفيسور

    ان يعدد لنا عيوب الدوله المدنيه مستندا على الوقائع الماثله والتاريخ

    كما ايضا يبين فضل الدوله الدينيه من التاريخ وتجربة الانقاذ , طالبان والصومال

    والموضوع مافى شك داير شجاعه ولكنه قطع شك فى مصلحة الاجيال من

    بعدنا

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..