منوعات

عام على رحيل مصطفى المدني

افتحي النافذة الزرقاء للشمس/فأحلى أغنية/في حكايات بلادي/ خضبت وهي تجوب الأوديةبدم البلبل أوتار المغني -البياتي

تقفز الى خاطري تلك الصورة الدامعة كلما وخزني ألم الذكرى فقد كان مصطفى المدني حقا وصدقا احلى اغنيات بلادي وكان رحيله استدعاء ا مريرا لبلبل اوسكار وايلد الذي قضى ليلته يغني للوردة البيضاء وشوكتها مغروزة في قلبه.وفي الصباح وجدوا جثته والى جانبها الوردة الحمراء وقد تحولت من البياض البريء الى الحمرة القانية حيث اصطبغت بدماء قلبه الطعين.

انفض برحيله مجلس الانس وكشفت الدنيا عن انيابها الطوال وانتزعتنا من احضان برائتنا ووداعتنا لتفتك بآخر ما بقي لنا من أحباب:سفيري ووزيري واخي وحبيبي وعافيتي وبهجة روحي وأنيس قلبي في وحشة الدنيا وفي انهياراتها الأليمة فغدرتنا واخذته منا.

لم يكن مصطفى سوى طيف عبر دنيانا ومضى حاملا شعلته الابدية يوقد بها شموع الحب والشهامة والكرم والوداد .و كان ككل الاطياف قليل اللحم قليل الاقبال على الطعام كثير الحديث عذبه يحسن الولوج من مداخله والخروج من بواباته ضاقت او اتسعت أكثر همه ان يدخل على قلب سامعه البشاشة والنور.وله فوق ذلك فضائل لا تحصى تطرق لذكرها كل من كتب عنه راثيا او مؤاسيا

سعدت له حين عرفت انه ظفر في ساعاته الاخيرة باجمل ما يتمنى المرء في ساعة الرحيل فقد ظفر بالموت الهنيئ محاطا بأحباب قلبه:عايدة وأمل وحنين وأمجدوخالد وأحمد وتمزق قلبي حين روت عايدة كيف تشبثوا بابيهم يقبلون وجهه ورأسه ويديه وقدميه في محاولة اخيرة لانتزاعه من مخالب الموت واذكر أنني دفعت سماعة الهاتف بعيدا وقد تفطر قلبي للعائلة المفجوعة وهي تدافع ملك الموت الذي انشب اظافره في عماد حياتهم ومناط حبهم وسعادة ايامهم.

@@

في سنوات استقلالنا الاولى قررت الخارجيه ايفاده الي بيروت قائما باعمال سفارتها في لبنان(علي جهة الاصالة sur piedsوليس علي جهة الوكالة ad interim) وذلك بعيد التحاقه بالعمل الدبلوما سي ببضع سنين فآثار ذلك ثائرة البعض ولكن قرار أيفاده برهن فيما بعد علي صحته التي لا تفبل التشكيك فقد كسب الدبلوماسي الشاب لبلاده مجموعة رائعة من الاصدقاء ظلوا على عهد الوداد حتي شاخوا ،وشاخ الدبلوماسي الشاب الذي علمهم محبة السودان- نذكر من اولئك الاعلام الشاعر نزار قباني والكاتب السياسي شفيق الحوت والصحفية ليلى الحر والاديبة غادة السمان بالاضافة لاخرين لاينتظمهم سلك المشاهير ولكنهم

من اهل الراي والقيادة في اوطانهم ومن مجموعهم تتكون لبنة كبرى في صرح سمعة السودان الطيبة .وكما علمهم مصطفى محبة السودان تعلم منهم محبة العروبة .فالسفراء العرب هم دائما في طليعة اصدقاءه ومعارفه وخاصة اهل الشام فقد كان شآمي الهوى محبا عاشقا لمفردات الحضارة التي توارثتها المنطقة حافظا لاشعارهاومفتونا بموسيقاها وغنائها.يترنم بألحان فيروز ويردد “قدك المياس يا قمري” و”لما بدا يتثنى” وكل من قرأ كتاب ذكرياته لابد ان يلمح تذوقه وحسن روايته لاشعار القباني ودرويش وكانت له معرفة تامة باخبار عمر ابو ريشة وابراهيم طوقان وكان يروي اجمل الطرائف عن ادباء المنطقة وكان يحييني سائلا “كيف عيناك “فافهم واضحك إذ كان ذلك اشارة ظريفة الى برقية مشهورة بعثها طوقان الى صديق له مسيحي الديانة كان قد أعلن توبته عن الخمر والنساء وكان نص البرقية بيتان من الشعر هما:”كيف عيناك ياحبيب الروح بعد ترك الذي وهجر الصبوح*لاتكن كالمسيح في الذي والذي واتبع منهاج ام المسيح”

وموضع كلمة” الذي” مما لايجوز ذكره صراحة ولكنه مستملح في الانس بين الاحباب كما ان الهذر حول الاديان كان مباحا في ذلك الزمان قبل ان تدخل المنطقة العربية عهود التزمت الديني والتعصب المرير

.. واول سماعي تلك النادرة منه اغرقت في الضحك ولازال ذلك ديدني فان ذكرى ذلك العزيز تفترن دائما بالمرح والسعادة وتلك مدرسته في الدبلوماسية التي يصعب تقليدها فليس لكل دبلوماسي ما لمصطفى المدني من حلاوة الروح وطيب المعشر والتواضع الحنون..

روى عن شاعر لبناني استطاع ان يتسلل الى حفل تأبين اقيم للسياسي السوري –

جميل مردم الذي كان شديد الوطأة على اليسار فقال الشاعر بيتا واحدا من الشعرالهجائي قال فيه:”ان ارحام البغايا لم تلد مجرما مثل جميل المردم” ثم اطلق ساقيه للريح هاربا.

لو كان المدني ممن يعرفون الحقد ويتلوثون بأوضاره لما أحب الشام ولبنان بالذات فعلى ايام صباه وشبابه الباكر ظلمته الجامعة الللبنانية ظلما فادحا القى به في الحبس الى ان جاء والده العطوف فاخرجه من الحبس وعاد به الى السودان ثم بعثه الى كامبردج على نفقته الخاصة فقد كان والده رحمه الله رجلا موسرا اخذ عنه المصطفي طلاقة اليد في الصرف والكرم ومن طرائفه في ذلك الصدد انه عاد من احدى سفاراته مثقلا بالديون فسددها والده الكريم وقال معاتبا “اريد ان اعرف لماذا تشتغل عند الحكومة وتكلفني انا بدفع مرتبك..تعال اشتغل عندي وانا ادفع لك ما تشاء.” فقد حباه الله ذلك الولي الكافل الذي على قول ابن ابي ربيعة في إحدى معشوقاته ان لها وليا “كفاها كل امر يهمها فليست لشيء آخر الليل تسهر:”

التحقت بالخارجية اوائل عام 1966فبعثتني الى فرنسا لاتعلم الدبلوماسية واللغة الفرنسية وعندما عدت كان زملائي قد توزعوا على السفارات السودانية في مختلف بقاع العالم فبقيت بديوان الوزارة منتظرا ما يفتح به الله من مواقع وكان ذلك فألا حسنا فقد جرى تعيين المصطفى سفيرا في براغ واختارني صهره العطوف استاذنا جمال محمد احمد لاشغل منصب السكرتير الثاني للسفارة الجديدة الى جانب المستشارابوبكر عبد الله قمر الانبياء وهو من ألمع ما انتجت الخارجية للرتب الوسيطة وكان من شأنه ان يكون علما من اعلام الدبلوماسية لو امهله القدر القاسي فقد عاجلته المنية في حادث حركة وهو يقضي عطلة قصيرة ببولندا.

كان نقلي الى براغ في معية المصطفى ضربة من ضربات الحظ فقد اتيح لي سفير لاتفصلني عنه في العمر الا سنوات قلائل وهو سفير متقدم الفكر لا يتمسك بالشكليات ويشاركني في الميول السياسية والادبية وبيته مفتوح لي ازوره متى شئت وآنس الى ابنائه وزوجه الراقية مدام عايدة جمال محمد احمد وبعد سنوات قلائل أصبح لي صهرا وجدا لخمسة من الابناء والبنات رزقت بهم من ذلك الزواج الميمون .

بعد ذلك الزواج لم يعد لي معه مقام فليس امرا محمودا ان يعمل المرء مع قريب له لما في ذلك من شبهة المجاملة وذلك امر يضر بكلينا فاذا احسنت نسب الناس احساني الى لطفه واذا اخطأت هولوا من خطئي ونسبوه الى تستره على.وهو امر جربته حين كنت اعمل بالمحاماة وتعرض رئيس مكتبي للطرد من كشف المحامين فكان زملائي – سامحهم الله-يسمونني ولي العهد باعتبار ان المحامي الكبير سيمدني بعلمه الغزيز من وراء حجاب.

فرقتنا الاقدار ولكنها لم تفصل قلوبنا عن بعضنا البعض فقد كانت زوجتي ولا زالت اقرب وأعز صديقات مدام عايدة وواحدة من احب بنات اخواته إليه وظلت دار المصطفى قبلتنا في كل عودة لنا الى السودان وحبل الهاتف بيننا موصول عبر المسافات وظل ما في القلب في القلب يا كنيسة الرب.

هوذا عام قد مضى ولتمضين بعده اعوام واعوام وسنمضي كلنا ابطال هذه القصة ومشاهديها وما من باق الا وجهه الكريم ولكن العظة الكبرى هي ما يتخلف بعد زوال اشباحنا من عطر ارواحنا والحمد لله أن حبيبنا مصطفى ترك وراءه اجمل وأعطر الذكريات فأحسن يارب مثواه وأكرمه ونعِمه واجمعنا بروحه الانيس في دار البقاء ولاحول ولاقوة الا بك يا الله.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. لم يتفق لي أن أعرفه في حياته وكتبت ما يعض بنان الروح أن لم أنعم بمعرفة سودانياً وسيماًآخر. رحمه الله فقد ميز رحيله باستثمار في كتابة كهذه.

  2. لم يتفق لي أن أعرفه في حياته وكتبت ما يعض بنان الروح أن لم أنعم بمعرفة سودانياً وسيماًآخر. رحمه الله فقد ميز رحيله باستثمار في كتابة كهذه.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..