انتخابات مفترق الطرق

شئ من حتي

انتخابات مفترق الطرق

د.صديق تاور كافي

كما توقعنا في مقالات ومناسبات سابقة، فقد تحولت الانتخابات التكميلية لولاية جنوب كردفان، الى مصدر مضاف لمصادر التوتر والتأزم العديدة التي أوجدتها اتفاقية نيفاشا 5002م لاهل السودان جميعاً. فبعد تخطي أزمة الاحصاء السكاني 5002م، التي كانت السبب الاساسي في تأجيل الانتخابات، وبعد تخطي مرحلة الحملة الانتخابية ذات التجاوزات والخروقات الكبيرة من الشريكين، تم عبور اجواء الاقتراع المتوترة، تحولت عمليات عد الاصوات وفرزها الى معركة جديدة مفتعلة. وسوف تعقبها معركة أخيرة حول النتيجة واعلانها ولكنها ستكون فاصلة لانها تمثل مفترق طرق على صعيد الشراكة وعلى صعيد كل شريك أيضاً، ومن ثم يتحدد على ضوء نتائجها الكثير من ملامح المستقبل السوداني الغائم. ويمكن لنا الوقوف عند جملة من الحيثيات والملاحظات التي تساعد على التشخيص والتنبوء بالمآلات.
فأولاً: ومن الناحية العملية تبقى من الزمن أقل من ثمانية اسابيع لبلوغ قطار نيفاشا محطته الاخيرة، حيث لا التزام بعدها على أساس ما عُرف باتفاقية السلام الشامل، وفي أحسن الاحوال يمكن الوصول الى اتفاقات ترقيعية او اتفاقات جديدة ما بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني، خاضعة أيضاً للضغوط الدولية وليست نابعة من الارادة الوطنية، كما هو حال هذين الشريكين دائماً. وما يلي منطقة جنوب كردفان من هذا القيد الزمني الضاغط هو بقاء العديد من بنود اتفاق الشريكين الكبيرة دون انجاز، مثال عملية المشورة الشعبية، وترسيم الحدود واستفتاء أبيي، والترتيبات الأمنية، وأبناء الجبال في الجيش الشعبي. وكلها موضوعات ذات حساسية عالية وذات ارتباط مباشر بالسلام الحقيقي على ارض الواقع.
ثانياً: سبقت هذه الانتخابات شهور من التهدئة بين الشريكين على خلفية التفاهمات المركزية في جوبا والخرطوم بشأن المنطقة، تمثلت في التقارب بين هارون والحلو. وهو التقارب الذي كان قد تواثق على التنسيق الكامل في الانتخابات لضمان استمرار الشراكة التنفيذية في الولاية. ولكن من الواضح أن توتر العلاقة مع مستوى الشراكة المركزية قد انعكس مباشرة على حالة التهدئة المصطنعة في جنوب كردفان، حيث كانت منطقة أبيي هي الضحية الأكبر، اضافة الى قوافل العودة الطوعية في يناير الماضي، وأيضاً استضافة الحركة الشعبية لبعض الفصائل الدارفورية لاغراض التنسيق.
هذا التقاطع في الاجندة المركزية بين الخرطوم وجوبا، هو الذي حول العملية الانتخابية في جنوب كردفان الى مادة جديدة من مواد التنازع والصراع ولكن بوتائر اعلى من كل ما سبقها. بمعنى ان الامر أصبح صراعاً على السيطرة على المنطقة أكثر منه تنافساً انتخابياً ديمقراطياً كما يبدو للوهلة الاولى. وهو السبب الذي جعل الشريكين يتفقان على اقصاء كل القوى السياسية الأخرى بصورة كاملة، لينفردا بالعملية التي بموجبها سوف ينفرد أحدهما بتحديد مستقبل هذه المنطقة.
بالنسبة لحزب المؤتمر الوطني فهو ينظر الى هذه الانتخابات من الناحية الأمنية فقط. أي أن التقارب الذي بدأ بين الحركات الدارفورية والحركة الشعبية سوف يتحول الى طوق أمني خطير يهدد الأمن والاستقرار في كل السودان، اذا أمكن تجسيره بسيطرة الحركة الشعبية على ولاية جنوب كردفان ذات الحدود الطويلة مع دولة الجنوب الوليدة، آخذين في الاعتبار وجود قوات كبيرة من أبناء المنطقة ما تزال تحت سيطرة الحركة في الجنوب، ووجود مجموعات أخرى على هيئة جيوب بداخلها. وآخذين في الاعتبار أيضاً تملص قيادة الحركة الشعبية في الولاية عن مواثيق الشرف التي وقعتها مع الجميع بشأن مضمون وسقف المشورة الشعبية بعد تجربة ولاية النيل الازرق. فقد تغير خطاب الأخيرة بشكل واضح واعتبرت أن المشورة الشعبية لا سقف لها وانها يمكن أن تصل لأقصى مدى من «الطموح». وهذا مؤشر لنوايا قطاع الشمال في الحركة بخصوص ولاية جنوب كردفان. لذلك فالمؤتمر الوطني يتحدث عن استحقاقات مناطقية، الا عندما وجد نفسه بالقرب من صناديق الاقتراع، وأنه ربما يفقد السيطرة على الولاية وبالتالي كل السودان.
أما بالنسبة للحركة الشعبية، فهي على حداثة عهدها بالعمل السياسي المدني، واحتفاظها بذات الخطاب التعبوي أيام الحرب على الصعيد المحلي، فانها من الناحية المركزية «في جوبا» تهمها هذه المنطقة أمنياً أيضاً، كحاجز صد يبعد عنها التأثر المباشر بأي صدام مسلح من ناحية، ومن ناحية أخرى فان سيطرتها عليها تقوي من نفوذ قطاع الشمال وتسهل مخطط تفتيت ما تبقى من السودان. وولائياً لم يكن أداء الحركة الشعبية يؤهلها لكسب الرهان الانتخابي طيلة السنوات الماضية، خاصة في فترة الحملة الانتخابية التي كشفت فيها عن سلوك منفر للغاية. ولكن تبقى منطقة جنوب كردفان مرتكزاً حيوياً لها تتحدد به وضعيتها المستقبلية. لذلك فالحركة الشعبية لم تسلم من ممارسة التزوير في مناطق نفوذها، مثلما فعل غريمها الذي تشتكي منه الآن.
حالياً تُجرِّع الحركة الشعبية المؤتمر الوطني من ذات الكأس الذي ظل يسقى به خصومه في العمليات الانتخابية المختلفة، في النقابات او اتحادات الطلاب أو الانتخابات العامة. لقد اعتاد المؤتمر الوطني في كل هذه الساحات ان يعتمد مرة على التزوير وأخرى على اشاعة أجواء التوتر والتهديد بالفوضى الأمنية، وثالثة بافتعال الأزمات والمشاكل.. الخ. ومن السهل ملاحظة ذلك في انتخابات ابريل الماضية، وكذلك في أجواء العنف الملازم لأي انتخابات طلابية في الجامعات، حيث الشعار هو اما الفوز أو الفوضى كما هو شعار النجمة أو الهجمة. لذلك فان ادارة العملية الانتخابية في جنوب كردفان هي ادارة ملف أمني أكثر من كونها عملية سياسية اعتيادية.
وفي كل هذا الخضم تجد المفوضية القومية للانتخابات نفسها في وضع لا تحسد عليه، ما بين ابتزاز شريكين لا يؤمنان بالديمقراطية أصلاً، وقد اتهما المفوضية كثيراً بتجاوز القانون نفسه، وباقصاء القوى السياسية الحقيقية، لتقع هي في النهاية في الشرك وتتأمل الشباك، واللهم لا حسد. لقد وقّعت جميع القوى بما فيها الحركة والمؤتمر على ميثاق شرف يمنع المظاهر الاحتفالية خلال الثلاثة ايام الاولى من اعلان النتائج، ولكن الاثنين هما أول من خرق هذا الميثاق باعلان كل منهما فوزه بمنصب الوالي قبل ان تبدأ لجان عد الأصوات ومطابقتها عملها. وما يزال عمل اللجان متوقفاً بسبب انسحاب ممثلي الحركة الشعبية، بعد ان شاركوا في العمل بصورة طبيعية في الفترة الصباحية، ويعتقد اغلبية الحاضرين أن أسباب هذا الانسحاب غير مبررة، ولا تسفر الا عن عرقلة لاعلان النتائج. فأياً كان الأمر، وبما أن اللجان قد بدأت عملها وكان يسير بصورة طبيعية، فان المنطق يرجح استمرار هذا العمل، والتحفظ على أي مركز يدور حوله جدل. أما وأن ينخرط الناس في العمل، ثم يخرجون جميعاً لفترة الافطار والصلاة، ثم تأتي مجموعة لتعلق انسحابها بهذا الشكل، فذلك لا يشير الى غير البحث عن عراقيل لتعطيل النتيجة بعد أن استشعر هؤلاء أنها في غير صالحهم.
سوف تنتهي هذه الانتخابات باتفاق ثنائي جديد بعد اعلان النتائج، يكون فيه أحد الاطراف في موقف أضعف مما كان عليه أثناء الشراكة، وهو مفترق الطرق الحقيقي الذي يؤشر ملامح المستقبل لجنوب كردفان وللسودان كما أسلفنا.

الصحافة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..