تداعي جدران الصمت

تداعي جدران الصمت

قصة قصيرة

ظلام دامس يغمر أرضية الغرفة الضيقة. ويتكسّر كما الموج على سطح الجدران. وأنا بداخل الغرفة كغريق أتمسك لا بقشة. أتشبث بتلابيب الحياة. بنقاط النور المنهمرة من أخرام السقف. في خضم هذا الظلام سبحت بصعوبة بالغة على أرضية الغرفة الغارقة في أوحال العتمة. تسندت على الجدار. ورفعت جسدي لأعلى. كنت أريد ان أستنشق بعض الهواء النقي المختلط بنقاط النور السائل من أخرام صغيرة بالسقف. رائحة العفونة لا تطاق ولون الظلام القاتم في كل مكان يبعث في نفسي شعور لا يوصف. بقعة الحياة الوحيدة بهذه الغرفة آتية من أنفاسي الكريهة. وتلك النقاط المضيئة الهاطلة من السقف. جسدي يؤلمني. بكفي تحسست موضع الألم. عيني اليمنى متورمة بالكاد تفتح. أنفي وفمي تسيل منهما الدماء. ثمة بقع من الدم الجاف على صدر قميصي. حاولت تمديد ساقي. ركبتي اليسرى تؤلمني و اصبع قدمي اليمنى الكبير ملتوي. طبول تدق برأسي من الخلف. وضعت كفي كضماد على موضع الألم فتخضّب كفي باللون الأحمر. ألم حاد يعتصر بطني وضلوعي. بأصابعي تحسست أضلعي أعدها. تعثرت أصابعي بشيء صغير. ما هذا؟
آها. انها قداحتي؟! ولكن كيف تركوها؟ لقد أخذوا مني كل شيء يريدونه. قلمي. أوراقي. نظارتي الطبية. حقيبتي ومحفظتي. كل شيء تقريبا. حتى علبة السجائر الرخيص أخذوها وتناوبوا على امتصاص النيوكتين بانتشاء غريب. و كانوا أجلافا دخنوا لفافة التبغ بتلذذ وتنابوا على ضربي وكأنهم يؤدون في طقوس مقدسة ثم نفثوا دخان فعلتهم الدنيئة بوجهي. لا تقلوا سادتي كبريائي مكنون في موضعه وهو الذي يبث في روحي وقود الأمل. ولكن ما الذي أتي بالقداحة لهذا المكان؟ لابد أنها قفزت من جيب قميصي الممزق واختبئت بين ضلوعي والفانيلة الداخلية حينما اشتد الضرب. لقد مهروا صفحات جسدي بخط ركيك ولغة مبتذلة ولكن عليّ أن أعترف لكم لا داعي للانكار أو ادعاء بطولات زائفة فقد كانوا يجيدونها تماما. هؤلاء المحققون بارعون في عملهم لا تفوت عليهم مثل حركات قداحتي الصغيرة. لابد أنهم تركوها قاصدين. يريدونني أن أموت منتحرا. أشعل النار بجسدي ليتلذذ سادتهم بنكهة الشواء و يتلمظوا طعم الموت بأصابعهم. أصبعي الابهام يرتعش وأنا أحاول قدح النار في ركام الظلام. لا في جسدي. (كلك.. كلك.. كلك). بعد ثلاث محاولات فاشلة لمع الضوء بعيني. بكفي أخفيت النور وسبحت بعيني في أرجاء الغرفة عكس تيار الظلام وأجلت البصر. ثمة رسومات باهتة على الجدران. زهرة بلون الفحم. شبح لوجه طفلة يسيل من فمها بقايا طلاء مهترئ. عين واسعة تبرز محدقة من الجدار و دامعة بلون الكحل. وخطوط طلسمية لم أفهم منها شيئا فتركتها ورحت أحدق بالسقف. سلك كهربائي يتدلى ببلاهة من موضع مجسم متخيل لمروحة السقف منتوفة الريش. أتخيلها الآن جيدا. مروحة قديمة ماركت أورينت من ذلك النوع الذي تجده يدور ببطء واصطكاك منتظم مبعث على القلق في عنابر المستشفيات والمكاتب الحكومية. أحسست بنسمة هواء باردة قادمة من السلك الكهربائي فشعرت بالنشوة وأجلت بصري أتفحص السقف جيدا . السقف من فوقي ألواح رمادية من الزنك وقد بدأت للتو تمطر نقاط من الضوء تناثرت على جسدي وعلى أرضية الغرفة. أراها الآن بكل وضوح أسفل مني وكانت تلمع بالأرضية ولا تذوب. لابد أن الشمس سطعت بالخارج قلت في نفسي أو أنها نقاط مضيئة آتية من القمر أو النجوم. أذكر حينما تم اعتقالي كانت السماء ملبدة بالغيوم. لا أعلم لكم من الوقت مكثت بهذه الغرفة المظلمة. حتى أنني بت لا أدري. هل الوقت ليل أم نهار؟ على أية حال حينما رموني بداخل هذه الغرفة كان الظلام دامسا. لذا سوف أعتبر أن الوقت ليل. وأن هذه النقاط المضيئة هي قادمة من النجوم وأن أرضية الغرفة المظلمة هي السماء. هذا يعني أن الأشياء صارت مقلوبة برأسي. يا الهي انني أهذئ. أنا مشوش بالفعل. وفجأة سمعت طنين ولا نحل. وجهت نور قداحتي صوب مصدر الصوت. ذبابة عالقة بشباك عنكبوت نصبها بدهاء كبير على الجدار. ياله من عنكبوت ماكر. ها هو يتسلل من مخبئه يمسك الذبابة بأرجله الطويلة ويغرس شوكته أو خرطومه الطويل. لست أدري بجسدها النحيل ويبدأ في امتصاص الرحيق. رحيق حياتها وهي لا حول لها ولا قوة. رفست قليلا بأرجلها الرقيقة مصدرة ذلك الطنين المزعج. وحين جف الرحيق انطفأ الصوت كسراج نضب زيته. هل سوف يكون مصيري مثل تلك الذبابة البائسة؟ يا الهي سوف يمتصوا رحيق حياتي ويتركونني مثل هذه الذبابة المسكينة معلق بشباكهم حتى تجف دمائي وتتكسر عظامي. شعرت بالهلع من النهاية المأساوية لحياة الذبابة فأدرت وجهي للناحية الأخرى. (طق.. طق. طق). طرقات على جدار الغرفة المجاورة. الصقت أذني بالجدار و أرهفت السمع. نعم هناك شخص مثلي محبوس بالغرفة المجاورة. بعد أيام صارت بيننا لغة مشتركة. تحية الصباح طرقة واحدة. اني أتنفس طرقتان. صوت دائري تعني رأسي يدور. هذا على حسب تفسيري للحركات ولا أدري كيف فسرها جاري بالغرفة المجاورة. على أية حال صارت هذه الحركات تعبر عنا حتى لو لم تمت للغات بصلة. الا تكون بعض الايماءات في كثير من الأحيان معبرة أكثر؟
ألا يكون الصمت في بعض المواقف أبلغ من الكلام؟
ذات يوم سمعت جلبة كبيرة بالممر الخارجي. وصوت باب يفتح ويغلق بقوة. وبعدها همدت جميع الأصوات بغرفة جاري. لا طرقة واحدة ولا طرقتان ولا صوت دائري. في طابور الصباح الذي يتم في العادة بالممر الخارجي بين الغرف. همست بأذن جاري بالصف. فانتقلت عدوى الهمس للجميع. في الليل تحوّل الهمس الى عدوى زكام. وبدأت نوبات العطس تنتشر بجميع الغرف.
– ماذا يدور بالغرف المظلمة يا كبير الحراس؟.
– لا علم لي يا سيدي. سألت المشعوز الذي يقوم بعلاج المعتقلين من نوبات الجنون التي تنتابهم من وقت لآخر. قال. لابد أن هناك أرواحا شريرة تحوم بالغرف المظلمة. بعد اذنكم سيدي اقترح المشعوز أن نقوم باخراج جميع المعتقلين للفناء الخارجي. يقول أن أشعة الشمس يمكنها طرد الأرواح الشريرة التي تلبستهم من جراء مكوثهم لفترة طويلة في الظلام.
– اذن نفذ الأمر على الفور.
– علم وسينفذ في الحال.
في الفناء الخارجي ملت على جاري بالصف وهمست بأذنه. ثم ما لبث أن مالت الصفوف كقطع الدومنيو المصفوفة لأعلى. ثم استوت واقفةوبدأنا العد في سرنا.
واحد.. اثنان… ثلاثة.
لااااااا …..
خرجت صرخة مدوية فتداعت جدران الصمت محدثة هالة عظيمة من النور.

جمال الدين علي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..