سفير فوق العادة لوطن الجمال في عروس الرمال

المدن كالإنسان بعضها من أول نظرة تسرق قلبك الي الأبد ، و مدينتنا تسرق القلوب من أول نظرة ، تضاريسها وطقسها ورمالها وإنسانها والهدوء الذي يلازم ليلها والضجيج الذي يطل عليك من صباحاتها وكل ما فيها يشدك إليها ، يغالبك الحنين دوماً لا تفتر ذاكرتك تسترجع الأحداث بكل الأذواق والذكريات كلها جميلها ومؤلمها ، أمسياتها التي يتصاعد منها دخان الاقاشي ، ونهارها القائظ وأنت تحوم علي أطراف سوق ود عكيفة تغمرك رائحة الكول و القضيم و العرديب و التبلدي وقد تتساءل وهل لهذه الأشياء روائح نعم و تخترق كل أماكن الأذواق فيك ، يطربك خريفها الذي يحيل رمالها الي خضرة تتدثر به جبالها وهضابها ووديانها وساحاتها ، إنها الابيض جميلة جميلات المدن السودانية .

منذ سنوات طويلة إرتبط بها إنسان العيلفون عشقاً لا ينتهي ، وسفر خالد تتعدد صفحاته كتبت بمداد من نور ، عديد الأسر العيلفونية إرتبطت بها إرتباطاً وثيقاً يكاد لا ينفك كلما ذكرت هي ذكروا هم ، اتخذها الرجل الذي سوف نستعرض سيرته في هذا المقال وطناً ثانياً عاش فيها حياته العريضة التي اتسمت بالإستقامة والصلاح وكان قدره ان مات فيها ، حوت جسده النحيل رمالها الناصعة البياض .

كما تقول العبارة الدالة علي قيم المعاني وتفرد الأسماء ان لكل إنسان من اسمه نصيب فالنعيم محمد سليمان حباه الله بنعيم الدنيا ، والنعيم في الدنيا يسوقك لإتجاهات متعددة أفضلها كما تقول مقولة التراث الإسلامي ذهب أهل الدثور بالأجور ، نموذج عمنا النعيم في جمع المال وإنفاقه يصلح مادة تدرس في أعرق الجامعات ، لم يرث ثروة عظيمة من أجداده وأهله كان عصامياً بني ثروته بكسبه وجهده وتوفيقاً من الله ، و الثروة في تلك الأيام كان طريقها يمر عبر مهن متعددة عرفتها العيلفون منذ أوقات باكرة ، مهنة قيادة البصات و اللواري السفرية في خمسينات وستينات القرن الماضي كانت من المهن التي تدر عليك دخلاً عظيماً وأصحاب هذه المهنة كانوا يومها نخبة المجتمع ، جلبوا سيرة عطرة للعيلفون بحسن هندامهم و أذواقهم الرفيعة وتعاملهم الحضاري فكانوا بوابة مشرقة من بوابات العيلفون وأصحاب حق أصيل في السمعة الحسنة التي إكتسبتها العيلفون ، فعبر ترحالهم بين المدن رسموا صورة زاهية وحضارية لإنسان العيلفون .

الفيلسوف محمد إقبال يقول ان العلاقة بين الدين والدنيا ليست علاقة خصومة فإذا أراد الإنسان ان يصل احدهما لا ينبغي عليه قطع صلته بالأخر ، هذا المنهج الرباني الذي خطه إقبال في رؤيته وفلسفته يكاد يتطابق مع السلوك الذي ميز سيرة النعيم محمد سليمان ، كان في كامل أخلاق التدين كأنه عابد صوفي متبتل في محراب العبادة كل ما تعرفه عن قيم الدين ومعانيه السمحة تكاد تلمسه في سيرته وسلوكه اليومي ، وتتداخل عليك إشكالات جدلية الدين وارتباطه بالزهد والتقشف وأنت تري العابد المتبتل في محراب العبادة وهو يلبس أجمل الثياب ويملك أفخم السيارات ويقطع عليك هذا الشك يقين من صفحات خالدة وأنت تتصفح سيرة صحابي جليل عبد الرحمن بن عوف الذي جمع بين الإيمان العميق والثروة الكبيرة والإنفاق العريض .

الصورة الذهنية التي تشكلت في وجداننا عن الرجل المتدين أنه مكفهر الوجه وجامد المشاعر ولكن ستأخذك الدهشة وأنت تري النعيم محمد سليمان الرجل المتدين وهو يحوم في منزله بحي القبة كأنه رسام تشكيلي يبدل من وضعية المظلة الداخلية لأن شكلها الجمالي ليس كما يجب ويبدل بلاط الساحة الخارجية لأن لونه قد بهت ويدخل الي صالونه الأنيق يبدل الأغطية التي عليه حتى تتلاءم مع شكل الطلاء الجديد ، هذه صورة لمسلم معاصر لم يدرس الفلسفة الاسلامية ولا يعرف اتجاهات التفكير الحديث ولكنه بحسه وفطرته السليمة علم ان هذا التفكير الجمالي هو الدين .

فوق ذلك قدم نموذج مثالي في تجارته فالمقولة الخالدة في التراث الاسلامي التي تمجد التجار كان وفياً لها تاجراً سمحاً اذا باع وإذا اشتري ، سوق الابيض ملك الأسواق في زمانه يشهد بذلك ، كلمة واحدة ضامنة من النعيم محمد سليمان تعادل شيكاً ملياري تستطيع ان تشتري به كل الأشياء في سوق الابيض .

من أجمل الجلسات في بيت حي القبة وهو الحي الذي كان يسكنه النعيم محمد سليمان او يسكن فيه أيهما إخترت من التعابير فهو صحيح ، و لعل من المفارقات والأقدار قبل ان ندخل في تفاصيل الجلسات أن الرجل شديد التدين والتمسك بالتعاليم الإسلامية المنسوبة الي تيار السلف الصالح والسنة المطهرة كان يسكن في حي القبة دلالة الاسم ورمزيته تغني عن الدخول في التفاصيل ولكن العظة ان الرجل شديد التسامح والتصالح في الأشكال وشديد التمسك بالجواهر والمعاني ، جلسة بعد صلاة العصر في بيت القبة كان يتجسد فيها منهج النعيم في الذوق وفي الكرم وفي الفهم العميق لتعاليم الاسلام ، اذا اردت لها توصيفاً دقيقاً فهي عبارة عن منتدى صغير يطوف بك في كل تفاصيل الحياة العامة السودانية بكافة ضروبها السياسية و الدينية والثقافية والاجتماعية ، يكفي ان تعرف عزيزي القارئ ان باهي نور كان فاكهة هذه الجلسات وباهي نور هو الرجل الذي خلده محمد عوض الكريم القرشي في روائعه الشعرية ، انت بدر الكل يا باهي نورنا نورت آفاقنا وأضئت دورنا .

عبقري الرواية العربية الطيب صالح له مقولة في رثاء المثقف الكبير و أحد أهرامات السودان جمال محمد احمد يقول و الآن وقد رحل إلى الأبد فان الخرطوم قد نقصت بهذا المعنى إلى الأبد ، ولا شك ان هذه المقولة باذخة الثراء اللغوي ومتفردة المعاني تكاد تنطبق علي سيرة الراحل الجليل النعيم محمد سليمان فبعد رحيله نقصت العيلفون للأبد وفقدت سفيراً للكرم الحاتمي في أرض كردفان وعروس الرمال ، رحيله كان جزء من تمنياته كان يدعو الله ان يأخذه وهو في كامل قوته وقد استجاب الله دعوة الرجل الصالح و ذهب الي ربه في كامل قوته وفي كامل أناقته .

علي عثمان علي سليمان
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..