أسرتني عيونو: في تذكر الدكتور العظيم الحسن

أسرتني عيونو: في تذكر الدكتور العظيم الحسن
1
رحم الله أخي العالم الكبير الدكتور عبد العظيم الحسن طبيب العيون الشهير الذي طواه الردى عنا ولم نفرغ بعد من استكمال عناصر فرحتنا به هنا في مدينة مونتري بولاية كاليفورنيا، التي حفها المحيط واحتواها البر. رحيل الدكتور عبد العظيم جلب معه الكثير من الأسى والذكريات فكنا بصدد عالم يبدو لك كقادم لتوه من البلد على ظهر احدى لواري الشمال القادمة من نوري مغنيا:
يا اللوري تشيل منو
بلا بنات نوري تشيل منو
2
كنت أقول أو ربما كنت أريد أن أقول للدكتور عبد العظيم أن تلك الأغنية القديمة ربما كان منشؤها العيون ممازحا. وقد أخبرته من قبل أنني استمعت الى برنامج اذاعي ذات يوم مع عالمنا الكبير طبيب العيون الدكتور فاروق سليمان يتحدث فيه عن الجمال الداخلي للعين وقدرة الخالق في صنع آيات هذا الجمال. وقد استطعت أن أتبين بعض ملامح هذا الجمال من خلال ترددي علي طبيب عيون هنا في أمريكا ظل يريني مشاهد للعين من الداخل عبر الكمبيوتر حيث تبدو العين كزهرة متنوعة الأوراق والألوان وتظهر هندسة سلكية بديعة للخالق عبر حزم متنوعة وملونة لأعصاب العين ويبدو أن هذا الجمال الداخلي هو الذي يكوِن أو يساهم في صنع جمال العين الخارجي وخلق ملاحم سهر العاشقين وولههم بتلك العيون. ومن اجتهاداتي الخاصة هي أن اللونين الأزرق والأخضر سمة غالبة للألوان هناك في قاع بحر العيون فلم لا يكون لونا مذهبات الحزن الخضرة والمياه هما سيدا الوجه الحسن ثالث تلك المذهبات؟ ولم لا يكونا مصدرين لهيام العاشق بالعين؟؟ وربما صدق من قال ذات يوم أن لعيون نساء المدن الساحلية زرقة خاصة تميزهن عن غيرهن وأضيف أن اللون الأحمر هو لون سائد أيضا داخل قاع العين وربما رمز لنزيف العاشقين ودمائهم وهم يحاولون عبور تلك البحار ذات السواحل الزرقاء كأحبابنا شيوخ العشق شعرائنا الحقيبيين وما أعظمهم من شعراء، فمن عيون الصيد النواعس الى عيون تعلم بكاء الخنساء وتستدعي أطياف ليلى من هناك من الخدور والخباءات والثغور !! فتأمل!!:

أسرتني عيونو
وجذبتني فنونو
وبقيت مجنونو
من أول نظرة
لم أجد في أغنياتنا العربيةمدونة زمنية بمعني “Calendar ترتب حالة الحب والهيام بالعين كلحظة متفردة مثل هذه الأغنية الفريدة فالأسر والجذب والجنون كحالات هيامية يدونها الشاعر هنا انما ليسجل حالة ادهاش اخرى ربما كانت أكثر تعظيما لحالته ووصفا لها ” من أول نظرة ” ولو كانت النظرات متعددة ربما شهدنا تناسل حالات عشقية لا مثيل لها وربما لوجدنا وضعا غنائيا متفردا تفرد شيوخنا العاشقين وتمكنهم من زمام القريض الذي يشرب من بحر اللغة والدين ونظم المجتمع وتقاليده العريقة .وهذه دعوة أطلقها مرة أخرى لكي يقوم ناد قومي للفن السوداني يقوم على حفظ تاريخه ورموزه وموسيقاه ودراسة مراحله وخواصه الموسيقية والوجدانية مراعيا لحق وسيرة الشاعر والفنان والموسيقار . والتصور أن ترعاه الدولة ومنظمات المجتمع وتصبح له دار لا تقتصر على الغناء فحسب وانما تتسع لجميع فئات المبدعين الذين توافرت على ذكرهم اتفاقيات ونظم حماية حقوق الملكية الفكرية.
وعودة الى حديثي الذي لم يتم مع الدكتور عبد العظيم بعد أن جمع حقائبه هو والاخت الفاضلة حرمه الأستاذة نعمات صالح عيسى الى الوطن. ومن هناك عادت الينا الخيل بلا عبد العظيم وظل مرضاه وعقاقيره ونخله في البلد واحبابه وعارفي فضله يسألوننا عنه ولا من مجيب سوى القول بأن الخيل عادت منكسة الأعلام ولم يعد ليل الساحل الغربي هو ليل الأنس الجميل ولكنه ليل التبريح والسهاد والفقد. مع عبد العظيم، كانت جماليات اللغة تعدل شكل جدائلها وتكتحل بأحلى ما عندها من مكياج. لكن عبد العظيم كان ينصحها بألا تفعل ذلك لأن التكحل في العينين ليس كالكحل ولذلك كانت عيون اللغة تستمع الى نصائحه كعارف بمزاجها وعمقها وتجلياتها النفسية والفنية. وكانت جماليات اللغة تكتب سيرتها الذاتية حسب وصفة عبد العظيم الطبية وكانت تحرز السبق عندما تتقدم الى وظائف الريادة بين لغات العالم لأن عيونها الناعسة تشبعت بمداواة الدكتور عبد العظيم كلغوي وكنطاسي بارع وكمحدث بالبلدي بلغة أهله الشايقية التي يفسر لك كثيرا من مفرداتها الصعبة ويبين لك العلاقة بينها وبين اللغة النوبية القديمة … فهو اذن يخرج بعلمه الطبي الى تخوم اللغة والتاريخ فيكون عرضه عرض العارف المشوق فلا تعرف في حضرته ان كان يوانسك أو يحاضرك مثلما يحاصرك بالطعام والضيافة فيزدحم وقتك في حضرته بمفردات الجمال وطهارة القلب.
كان عالم العيون وعاشقها-يذكر كيف أن العين وجدت لنفسها مكانا مشهودا في الذكر الحكيم فالمتقين في جنات وعيون، والنبي يعقوب عليه السلام ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم لفقد يوسف تماما كحالنا عندما رحل عنا هذا السيف الجميل-الدكتور عبد العظيم الحسن. قلت له ذات يوم وحينها ضحك كثيرا أن القرآن الكريم يحذر أصحاب “الأنوار الطويلة ” أو “العيون الزايغة ” كما نقول ففي سورة طه” ولا تمدّن عينيك الى ما متعنا به أزواجا فهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزفق ربك خير وأبقى ”
3
عبد العظيم الحسن من جنان نوري الى جنان الرضوان تمازحه عن سحر العيون والصلة بينها وبين فصائل النخل. تقول له أن مريم العذراء ربما كانت تهز بجذع نخلة من البركاوي أو التمود وتلك نخلة اعجاز ربما تفوقت به على نخلة انجاز صعب على حادينا الشيخ المغني أحمد عمر الرباطابي:
الشتيلة الفوق جدولا
جيت امد ايدي اتناولا
الحراريس قالولي لا
أنت فقري وما بتقدرا
ومابين عفاف مريم ونخلتها وهيام الرباطابي بنخلة شابة مخضرة العراجين، هناك عجو المحس التقيل التقول فدع العراجين وذاك معبر من معابرنا الى وحدة الوطن الحبيب بتسامحنا العرقي والاجتماعي الذي جمع وجدان كل مغنينا حول العين وكيف لا وحياتنا كلها من عينين كبيرتين هما منابع النيل فمن تلك العيون يتمدد داخل أراضينا خيرا وبركة. لقد كان موضوع العين اشارات قرآنية متكررة “فكلي واشربي وقري عينا ” قال طبيبنا أن للانسان حواس خمس تأثرا وتأثيرا وارسالا واستقبالا غير أن العين تقوم بالوظيفتين معا .. التأثير والتأثر والارسال والاستقبال فالعين مرآة لكل النوازع والخفقات تعبيرا عن أمل وألم القلب ومحركات الفكر من مبدأ أو عمل وربما يكون هذا هو البعد الذي عناه الشاعر عمر بن أبي ربيعة بقوله:
أشارت بطرف العين خيفة أهلها
اشارة محزون ولم تتكلم
فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا
وأهلا وسهلا بالحبيب المتيم
وربما لهذا السبب كانت هذه القصيدة التي تحتفي بالعين من أجمل المختارات الغنائية للفنان اليمني الكبير محمد مرشد ناجي وعندها تتجلي حكمة العود اليمني وأزمنة الغناء العربي الجميل. ولكن العين أصابت أيضا أزمنة غناء الفرنجة فذاك صديق العاشق روميو يصف حالته بعد أن اعتراه ضنى عشق العيون النجل من محبوبته جوليت “I think he has been bewitched by the charm of looks?
وربما يكون هذا هو البعد الذي غنى له وتغنى به مطربنا سرور:
أنا ما معيون
أذاى وداوايا خدود وعيون
ولم أر قط أغنية يتقرر فيه سبب المرض والشفاء منه كشيء واحد هو العيون الا في اغنية الحقيبة فتأمل علو مقام هذه الأغنية !!!. كما لم أر أعينا تداوي وتأسر الا عند الشاعر الهادي آدم الذي شق عليه فراق ممرضته بالقصر العيني ولو شفي:

شفى المدنفون من سحر عينيك
فظلوا لسحر عينيك أسرى
4
ويبدو ان العين الانسانية موضوع تخصص الدكتور عبد العظيم تحاصره من ناحية الفنان الكبير الراحل صلاح محمد عيسى؟ أتذكرون ذلك الصوت الرخيم في ليالى الراديوهات القرندنج وبطاريات البيريك في ما يطلبه المستمعون … صلاح عشا كدة أنا حبيتو والناسيك يا قلبي أنسا والسابك يا قلبي سيبو . اذا كان عبد العظيم هو الذي اتخذ من العيون مركزا لصباباته العلمية والفنية فان فناننا الراحل يشاركه الوله بهذه العيون :
أهوى العيون السودا
أهوى الجمال في خدودا
كف عيونك عني
لغة العيون كاتلاني
حب الجمال جنني
ووشوق الوصال أضناني
ولو أن فناننا القدير بحث عن ناصح في لغة العيون لوجد تلك النصيحة مشرّبة بزرقة بحر اللغة العربية وسواحله اللانهائية لدى العالم الكبير ، فالأسهوان عرقان في العين وكذلك الأصدران والنجصة هي شحمة العين من أعلى ومن أسفل والجفن غطاء المقلة من أعلاها والحدقة هي السواد الأعظم في العين كما أن الحندقة هي الحدقة وذنابة العين هي مؤخرها واللحظ هو مؤخر العين الذي يلى الصدغ والمحجر هو فجوة العين والمقلة هي الشحمة التي تجمع السواد البياض والموق هو طرف العين الذي يلي الأنف والناظر هو انسان العين الذي يلي الأنف والناظر هو انسان العين . ان عبد العظيم الذي كان لعين حبنا انسان يعرف هذه الأجزاء بلغتى العلم والأدب، وأذكر أنه كتب مقالا قصيرا للمشاركة في احدى ندوات معهد الدفاع للغات عن جماليات اللغة العربية واتساعها الرحب للمفردات العلمية قائلا بأنه لا يضر اللغة العربية من فتح عقلها وقلبها لمحاورة اللغات الأخرى وتزيين جيدها المرصع باللاليء بما تستوجبه ضرورات العلم والتقنية فتمضي قدما غير عابئة بالقائلين بأنه لغة لا تصلح الا للهيام بمفردات الجيد والثغر والنحر والعيون النجل.
5
العين الانسانية التي تخصص فيها الدكتور عبد العظيم حملت الى عيادته بالخرطوم جيوش الغلابة على ظهور اللواري من الشمال الحزين. لا يهمه كم سيدفعون أو السؤال عن قدرتهم على الدفع ولا يهمهم هم أين سيقيمون فدار الدكتور عبد العظيم رحبة وواسعة وفيها يحادثهم ويؤاكلهم بالبلدي ويعالجهم بالافرنجي و”يغمت ” لهم وربما وصل الى بيته وعيادته ابن عمه الشاعر المحقق الراحل عمر الحسين بأكياسه المليئة بالزهد والحبر والمسودات فيحادثه عن ديوان “الهام ” وعن المادح علي ود حليب وحسونة شاعر الشايقية وعن حاج الماحي وعن وعن ….ولمحبي العيون منهم يخبرهم بأن الاستهلال هو قطر العين الشديد وأن التحاتن هو وقع وتتابع الدمع وأن الجيوب هي مواضع خروج الماء من العين وأن السجعان هو سيلان الدمع أو السح أو السفح أو السفك . يقول لهم بأن اللجج هو غار العين الذي تنبت عليه حروف الحاجب وأن للحاجب أشكال كالحاجب النوني … حاجب مونيك الذي عناه الدكتور الواثق في “ام درمان تحتضر”:
وهل شتيت من الغزلان أرقبه
أم تلك طائفة من حورها العين
وهل سنا بارق أم رابنى بصري
أم وجه مونيك ذات الحاجب النونى
ومن أنواع الحاجب أيضاً، الأدمص والأزج والأغضف والأغض والأبلج.
6
ايها الطبيب
غشتك قبرك المزن … وشدت بذكرك قماري الشمال … حيِك نيل الوطن ونبل الحزانى من مرضاك … وحياك منا الشفاء والعافية.
حيتك العيون التي أحببتها ..فقد أسرتنا عيونك عيون اللغة والطب والفن وعيون الكرم وحيتك عيون الكتب التي حويت وعيون المها التي شدا بذكرها الشيوخ العاشقين ومنا تبكي عيننا اليمني فنزجرها فيسبلان معا ..فسلام عليك مع الخالدين.

د. عبدالرحيم عبدالحليم محمد
[email][email protected][/email]

‫4 تعليقات

  1. رحمة الله عليهيا عبد الرحيمز تقاطعت طرقي بالمرحوم وددت لو عرفته أكثرز بدا دائماً أنه رجل فنجري. التعازي.

  2. رحمة الله عليهيا عبد الرحيمز تقاطعت طرقي بالمرحوم وددت لو عرفته أكثرز بدا دائماً أنه رجل فنجري. التعازي.

  3. تحياتي دكتور وألف حمدا لله على السلامه. شكرا لحديثك الطيب عن العيون ورحم الله صديفكم دكتور عبد العظيم. تحدثت عن جانب العين الإيجابي إلا أن للعين وجه آخر سلبي… يقولون يا عين يا عينيه… يا كافره يا نصرانيه… وعين الفته فيها الواطه… ويقولون العين ترمي الطير من الشجر… والعين إذا كانت عين حاسد
    بتعوذ منها الإنسان ولقد أدخلت العين الجمل القِدر… فهلا تناولت جانب العين الآخر أيضا… وليست كل العيون في طرفها حَوَر… وإنما في طرف بعضها حسدا…

  4. موضوعي ليس دينيا عن الحسد والعين وانتما جمالي بحت فلا يعقل ان اتناول الحسد والجمال في مقال يركز على جماليات العين كيلا يؤثر ذلك في كيمياء المقال. بالطبع يمكن تناول العين من عدة اوجه

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..