في رحاب مدرسة الركابية الأبتدائية … سجع الذكرى و رونق التاريخ (4)

بسم الله الرحمن الرحيم

في رحاب مدرسة الركابية الأبتدائية … سجع الذكرى و رونق التاريخ (4)

ذهبت لجليسي في حي الركابية مجددا لأستأنس معه في مجلسه و لأسأله عن حاله مع اللغة العربية بين شعرها و نثرها وقد تاقت نفسي للأجابة منه ، فوجدته مازال مفتونا بكلا الطريقين .
يمجد أئمة النثر و يذكر الجاحظ و إبن المقفع بالخير و يعنيهما بالمدح و يخصهما بالثناء ، ثم ينحني إجلالا و إكبارا لأهل التجديد العصري في الشعر يقصد في ذلك أمير الشعراء و شاعر النيل و شاعر القطرين و شاعر حلفاية الملوك * .
حييته و جلست بجواره وقد أسند ظهره على كرسي متحرك و أخذ يردد بينه و بين نفسه الأية الكريمة (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) ثم قال لي :
هل تعلم أنه حينما هــجر العرب اليوم القرآن الكريم ، هزم الأدب العربي في بلادهم ، و هزمت معه اللــغة بين أبناءهم ، فأنصرف عن قراءته العامة و ظل يقبل عليه الخاصة .
وافقته في رأيه وذكرت له أمر الثقافة الغربية و ولع الناس بها هذه الأيام ، وما أحدثته من تأثير كبير في عقولهم و تحريك مشاعرهم و عواطفهم تجاه كل بضاعة رائجة أو كاسدة تأتيهم منها .
ضحك و سخرمن حديثي و قال لي : قل لي بربك هل هناك أعظم من أرث لغتنا العربية ؟ و هل هم أكثر شغفا منا بالثقافة الغربية؟
قل لي هل تتبعوا مثلنا تحليلا و نقدا حركة الأدب الغربي كما كنا نحن بالأمس ؟
نمازج بين شعر فيكتور هوجو وجوته و شكسبير و روايات روبرت لويس أستيفينسون و ألفونس دولامارتين وبين الشعر الجاهلي و شعرالبحتري و المتنبئ و أبي تمام و أبي العلاء المعري و أبو نواس و نثر أبن المقفع و الجاحظ .
هل قاموا مثلنا طلابا بتمثيل مسرحيات أحمد بك شوقي كما يفعل أقراننا الأنجليز مع شاعرهم الملهم وليم شكسبير ؟
قاطعته قائلا …. هونا علينا يا هذا فما أقصده ليس تتبعهم لحركة الأدب الغربي ومقارنتها بما يدور مثلها في الأدب العربي ، و لكن أفتتانهم بالمظاهر وتهافتهم على القشور و أنكبابهم في ملذاتها .
صمت قليلا مستبدرا رأيي ثم تابعت …..
و الأمر كله أرجعه يا صديقي لنظام القهر و الأستبداد الذي أستبدل مناهج بخت الرضا التي كانت تعطي لدراسة الأدب العربي بصنفيه النثر و الشعر و لروائع الأدب الأنجليزي حقها كاملا ، بأشباه كتب أخرى من شاكلة مأكلنا و مشربنا و ملبسنا !
قال لي بتبرم واضح ……
دعنا من حديث السياسة اذن الآن فليس لي فيها باع طويل ، و دعنا نستكين مع حديث الأزمان و الأجيال بين التاريخ و الشعر ، وقل لي ما هو مثلك الأعلى في الشعر ؟
قلت له تسألني مثلي الأعلى في الشعر ماهو ؟
سل عنه نفسك عندما تقرأ للمتنبئ بيت من الرثاء كمثل هذا :
ماكنت أحسب قبل دفنك في الثرى **** أن الكواكب في التراب تغور
أو عندما تقرأ في الغزل هذا البيت لشاعر حلفاية الملوك :
السيف في غمده لا تخشى بواتره **** ولحظ عينيك في الحالين بتار
أو عندما تقرأ لشاعر النيل في مدح الأمام محمد عبده :
قالوا صدقت فكان الصدق ماقالوا ***** ما كل منتسب للقول قوال
هذا قريضي وهذا قدر ممتدحي ***** هل بعد هذين إحكام و إجلال
وكذلك هذان البيتان اللذان قال فيهما شاعر النيل أن أمير الشعراء أحمد شوقي قد قتله بهما عندما مدح فيهما اللورد كارنارفون :
أفضى الى ختم الزمان ففضه ****** وحبا الى التاريخ في محرابه
وطوى القرون القهقرى حتى أتى ***** فرعون بين طعامه و شرابه
قال لي جليسي : أذن فأنت عاشق لهذه اللغة ؟
فقلت له : نعم ولكنني لم أنل حظا وافرا من أمر إجادتها ، وقد بثثت شكواي لشاعر صديق * فنصحني بحفظ القرأن الكريم و الشعر العربي الجاهلي منه وما جاء بعد رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم .
قال لي : أنها نعم النصيحة التي منحها لك صديقك هذا ، فقد جاءت لغة القرأن الكريم من صلب كلام العرب بأحكام و أعجاز عجيبين ، وقد ذكرتني بحديثك هذا كيف وصف أمرؤ القيس المرأة الفاتنة في معلقته بالبيضة وكان أول من وصفها من العرب بذلك عندما قال :
وبَيْضَـةِ خِدْرٍ لاَ يُرَامُ خِبَاؤُهَـا *** تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَـلِ
ثم جاء القرأن الكريم بنفس الوصف الذي أبتدعه أمرؤ القيس وجرى على ألسنة العرب في الجاهلية بعد ذلك في قوله تعالى :
( وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ )
ثم أردف …. ولكن قل لي من ألهب فؤادك و دفعك دفعا لحب اللغة العربية و أهلها ؟
قلت له سريعا : سيرة معلم فاضل في مدرسة الركابية يدعى أستاذ عمر محمود .
قال لي : و كيف كان ذلك ؟
قلت له : قرر بعد أعلان نتيجة الفصل الأول وبداية الثاني من السنة السادسة أن يقسم الدفعة لثمانية جمعيات للمدارسة والمذاكرة و التحضير لأمتحان الشهادة الأبتدائية .
ثم وضع على رأس هذه الجمعيات الثمانية أوائل الدفعة ترتيبا حسب التفوق الأكاديمي ، والعجيب في الأمر أنه قرر أن يسمي هذه الجمعيات بأسماء شعراء التجديد الشعري في القرن العشرين فكان نصيب كل جمعية تسمية لشاعر معين .
أول الفصل أخونا عبدالمجيد محمد أدريس ترأس جمعية أمير الشعراء أحمد شوقي ، وربما كانت لأمارة شوقي لمملكة الشعر ، والذي يقطر من لسانه سلسلا من سلسل ، سببا وجيها أن تنصبه على رأس هذه الجمعية وبهذا المسمى لهذا الشاعر الفذ البارع .
ألا يكفي أمير الشعراء شفاعة له يا صديقي ليكون كذلك أنه ألهب أفئدتنا يوما ما بعشق تراب بلادنا عندما تناهى لأسماعنا هذا البيت :
ولقد صدقتم هذه الأرض الهوى والحر يصدق في هوى أوطانه
نظر إلي جليسي بعيون مشفقة ثم قال لي :
ربما كان هذا الشاعر بارعا لكن أن يكون فذا فهنا قد أتوقف قليلا معك تحفظا على هذا النعت !
قلت له مستهزئا : لعلك أذن ممن تأثر برأي عميد الأدب العربي فيه ؟
قال لي سريعا : هو كذلك …. فلقد أيقنت يا أخي أن شوقي هذا يدفعك دفعا لتؤمن عندما تقرأ له كثيرا أنه مزدوج الشخصية ، فهو المؤمن الزاهد من زخرف هذه الحياة الدنيا تارة ، وهو العاشق المحب لهذه الحياة بكل ملذاتها تارة أخرى .
وليت الأمر يقتصر على ذلك فهو شاعر بارع الى حد النبوغ في التقليد حينما يقرض شعره ، ينظم مرة في الحكم و الأخلاق حتى تخاله المتنبئ و أبو العلاء المعري ، و ثانية تراه يتغنى بالخمر ويتهالك في وصفها تأثرا بالأخطل و أبو النواس و الأعشى ، ثم في ثالثة يمدح النبي الكريم صلوات الله عليه و سلامه تشبها بصاحب البردة كعب بن زهير !
قلت له ولكنك جهلت أو تعاميت عن فهم نظرة العميد الحقة و العميقة لهذا الشاعر، والتي ظللنا نؤمن بها و نرددها معه دفاعا عن إمارة شوقي لمملكة الشعراء !
قال لي : وما هي ؟
قلت له : شوقي شاعر يحب الشعر للشعر ، ويقرضه لأنه يجد في نفسه جيشان من العواطف يحب أن يصفها و الأحاسيس التي يحب أن يذيعها ، هو شاعر لأنه يشعر وليس هو بالشاعر الذي يريد أن يتكلم فقط من أجل الكلام ،والفرق بينه و بين أقرانه كالفرق مابين أمرئ القيس و المتأخرين من الشعراء الذي قرضوا الشعر تكسبا لا شعورا .
حرك رأسه بطريقة بدت وكـأني به لم تقنعه عريضة دفاعي أو يؤمن بمصداقية كلامي فأختصرنا الحديث عن شوقي عند هذا الحد ثم تابعت كلامي :
ثم جاءت الجمعية الثانية لأخونا خالد كمال ، فحازت على تسمية شاعر النيل حافظ أبراهيم ، وربما أختار أستاذنا عمر هذا الشاعر المتمكن ليكون على وصافة مملكة الشعر العربي الحديث لمخاصمته و منافسته الشديدة لنديده أمير الشعراء في نظم حلو الكلام وأعذبه .
أو ربما رأى أستاذنا غير ذلك ، وقرر أن يصنفه كذلك فقط لأبياته العجيبة الرائعة تلك و التي تغلب فيها على نفسه و هو ينشد قائلا :
وسـعــت كـتــاب الله لـفـظــاً وغــايـة *** ومـا ضـقـت عـن آي بـه وعـظاتِ
فكـيـف أضيق اليوم عـن وصــف آلـَةٍ *** وتــنــســيــق أسـمـاء لمختــرعاتِ
أنـا البحـر في أحــشـائه الـدر كـامــن *** فهل سألوا الغواص عن صدفـاتي؟
قال لي جليسي : رحم الله محمد حافظ أبراهيم فقد كان ليتمه وهو في الرابعة من عمره سببا لتخبطه طوال مسيرة حياته المتقلبة و التي أستهوتني ، و جعلتني أتعاطف معه كثيرا على حساب شوقي .
قلت له مستنكرا : فقط ليتمه أنت تتعاطف معه ؟ وما علاقة ذلك بتحكيم الذائقة و تفضيلك لملكة الشعر عنده على أمير الشعراء ؟
قال لي بغضب : أولا هو ليس بشاعر فحسب وأنما أديب بائس دهته الحوادث و دهمته الكوارث قرض الشعر فأبدع و كتب النثر فأوفى ، لا تصب منه حزما ولا تجد فيه عزما .
قلت له مازحا : أذن وبما أنك قد ذكرت لي رأي العميد و تمسكت به بشدة في عقيدة أمير الشعراء شوقي فأنك لن تستأثر بذلك وحدك ، فهاك ما ذم به شاعرك عندما أختار لفيكتور هوجو كتاب البؤساء و أصر أن يترجمه ترجمة خرجت للناس بائسة !
قال لي وهو يبتسم هكذا ردد حافظ بشأنهم حينما عابوا عليه ترجمته كتاب البؤساء :
أخرجت للناس كتابا ففتحوا علي من الحروب أبوابا ، و خلا غابي من الأسد و تذاءب علي أهل الحسد .
أعجلت جليسي بضحكة طويلة وقلت له أي حسد تقصد !!؟
بربك ماذا تقول في كتاب لا تكاد تمضي في قراءته قليلا حتى تشعر أنه كتب في غير هذا العصر !
فالبون الحسي واسع جدا بين الأصل و الترجمة ، تجده جليا عندما يرخي الأستاذ زمام قلمه مستخدما لغة ذي الرمة بنكهتها البدوية في العصر الأموي لكتاب وجه أصلا لفرنسيين في القرن التاسع عشر .
أكتفينا بذلك الحديث عن حافظ أبراهيم ،ثم أنتقلنا لحديث أخر سـألني جليسي فيه عن أمر الجمعية الثالثة فقلت له مواصلا :
وأما ما كان في أمر الجمعية الثالثة فذهبت لشاعرنا الجميل محمود سامي البارودي ، شاعر الحزن و المنافي ، وقد تحمل عبئها الصديق الصدوق عمار ميرغني ، ولا أرى لذلك سببا غير قصيدته العصماء ( شكوى) والتي أنشد فيها قائلا :
فأن يكن ساءني دهري وغادرني *** في غربة ليس فيها أخ حدب
فسوف تصفو الليالي بعد كدرتها *** وكل دور أذا ما تم ينقلب
وكانت الرابعة لأبوالقاسم الشابي ، والخامسة لأيليا أبوماضي ، و السادسة لأدريس جماع و السابعة لمعروف الرصافي و الثامنة لخليل مطران .
قال لي جليسي ما أجملها من فكرة !
قلت له بالفعل فقد حملتنا هذه الفكرة العبقرية من أستاذنا عمر حملا لمحبة و صداقة و مصاحبة هؤلاء الشعراء ، أمراء الكلمة الرصينة و العبارات العذبة .
حفظنا عن ظهر قلب سيرتهم و فهمنا وسرحنا مع قصائدهم الخالدة التي عشناها بكل جوارحنا و مشاعرنا ننشدها أوتارا شجية على قيثارة ثائرة من لحن أوزانها الشعرية قوافيها .
ثم دعني قبل أن أغادر مجلسك اليوم أحدثك قليلا عن أستاذة علوية مديرة المدرسة حينما كنا في السنة السادسة و الأخيرة و أستاذة التربية الأسلامية و اللغة العربية .
كانت أمرأة جميلة المحيا رغم أكتناز جسمها باللحم و قصر قامتها ، تعتد كثيرا بالمستوى المتميز الذي كان يقدمه طلاب المدرسة في أمتحانات الشهادة الأبتدائية ، وتعتمد سياسة تعليمية ضاغطة و متشددة لتحسين المستوى العلمي لطلابها .
فرد علي جليسي : نعم أذكرها جيدا كانت أستاذة مثابرة و طموحة ، و كانت لا تكتفي بساعات الدوام الرسمي ، وأنما كانت تحرص أن تأتي عصرا بنفسها لتراقب مستوى حضور و أنضباط الطلاب لدرس العصر و تخرج أحيانا كثيرة بعد صلاة المغرب مع خروج آخر طالب من حوش المدرسة .
قلت له : نعم وأذكر أيضا أن صديقنا صلاح كان يشكرها كثيرا لي لأنها كانت أحد أسباب أستقامته و تحسن مستواه الأكاديمي .
فقد قال لي أنه عندما جاء محولا من مدرسة مجاورة لمدرسة الركابية كان متقدما علينا بدفعة ، فقررت عمل أمتحان خاص له في مكتبها في مادتي التربية الأسلامية و اللغة العربية لأختبار مستواه .
وعندما وجدت أن مستواه ضعيف قالت لـأمه أن الركابية مدرسة قوية وما عندنا فيها أي أعادة لأي طالب أذا لم ينجح لا قدر الله صلاح في أمتحانات الشهادة الأبتدائية .
أشترطت أن تقبل أخونا صلاح كمستمع في السنة الحالية و السنة القادمة كطالب نظامي ، وبالفعل رضت أمه بذلك و جلس كمستمع مع الدفعة التي تسبقنا و أمتحن معهم و نجح و لكن نجاحه كان ضعيفا . يصف صلاح بنفسه تجربته كمستمع بالتجربة الرائعة ، وقد قوت عوده ، لذلك عندما جاء للسنة القادمة أحرز معنا نتيجة ممتازة .
قال لي جليسي بتثائب فعلا كانت علوية خالد أحد المحطات الفارقة في تاريخ المدرسة و موقف أخونا صلاح يؤكد لك حكمتها من جهة و حرصها على سمعة المدرسة من جهة أخرى .
أرخى الليل سدوله و تثاقلت في شفتينا الكلمات فآثرنا الأفتراق على أمل المواصلة في سرد قصص جديدة في زمان آخر أن مد الله في الآجال عن ذكريات و تاريخ هذه المدرسة العظيمة بعظمة مدينة أم درمان ….. أم درمان الأرض و الأنسان .

د. عبدالله البخاري الجعلي
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. ما هذا الكلام الفارغ ايها الموهوم ؟

    اللغة العربية هي لغة تخلف

    والدليل على ذلك وضع العرب اليوم في أسفل القائمة

    كيف جمعت بين بخاري وجعلي ؟

    بخارى من جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقا

    جعلي يعني عباسي قرشي كما يزعمون كذبا ؟!

  2. ما هذا الكلام الفارغ ايها الموهوم ؟

    اللغة العربية هي لغة تخلف

    والدليل على ذلك وضع العرب اليوم في أسفل القائمة

    كيف جمعت بين بخاري وجعلي ؟

    بخارى من جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقا

    جعلي يعني عباسي قرشي كما يزعمون كذبا ؟!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..