التسلط.. وهشاشة الأوضاع..!

في العام 1989م؛ قالت الحركة الإسلامية، إن الوضع الأمني السوداني الهشَّ، يتطلب التدخل العاجل للحفاظ على البلاد، وحمايتها من خطر الحرب الأهلية. وبناء على ذلك امتطت الحركة مدرعات الجيش، ونفَّذت انقلابها، بحجة انقاذ السودان، انطلاقاً من شرعية الأزمة التي صنعتها في مخيلة الكثيرين..!
وفي العام 2017م؛ أي بعد أكثر من ربع قرن من الزمان، يصرُّ المؤتمر الوطني ــ الذراع السياسي للحركة الإسلامية ــ على حقن أوردة الأحزاب التي تشارك في حكومة الوفاق الوطني، بذات الأمصال والحُجَّة السحرية القديمة، والقائلة بوجود خطر يهدد الدولة السودانية في وجودها. وكل ذلك في سبيل استمرار تقييد النشاط الحزبي. وفي سبيل اقناع القوى السياسية بأن الوقت لم يحِن بعد لفتح باب الحريات أمام أحزاب المعارضة لممارسة نشاطها..!
وفي كِلا الحالتين؛ ينجح المؤتمر الوطني في سجن بعض المكوِّنات الحزبية، في محابس الخوف من وقوع سيناريو الفوضى. ببساطة لأنه يتقِن الترويج بفزاعة اسمها انهيار الدولة السودانية، حال تخلِّيه عن السلطة، أو في حال تفكيك دولته المركزية القابضة، لصالح دولة القانون والمؤسسات..!
وهنا ــ في اعتقادي ــ تكمُن عبقرية الحزب الحاكم، الذي أفلح في استدعاء مبررات القرون الماضية، واستخدمها كأفيون يخدِّر به القوى السياسية في أزمنة الألفية الجديدة.. وأيضاً يكمُن خَطَل التقديرات السياسية للآخرين، الذين يشاركونه المسرح السياسي سواء في مربع الموالاة أو الممانعة..!
الغريب في الأمر؛ أن غالبية القوى السياسية التي تشارك حالياً في حكومة الوفاق الوطني تعزف بكورالية ممجوجة على المبررات، التي تذرَّع بها المؤتمر الوطني لعدم اطلاق سراح النشاط السياسي الحُر. بل إن تلك القوى تصفِّق بحماس لاستمرار الوضع المقيِّد على ما هو عليه..!
ولكن مع ذلك، فإن المفارقة لا تكمن في مواقف أحزاب الحوار، وإنما تتجلَّى في موقف المؤتمر الشعبي، الذي ركب ذات الموجة، بعدما تدلَّى من قطار المصادمة المتوهّمة، وارتضى أن يسبح مع التيار الساعي لايجاد مبرر لعدم اطلاق الحريات..!
انظر إلى أكثرية قادة المؤتمر الشعبي، تجدهم يرددون ذات الأسطوانة التي حَذَقَها المؤتمر الوطني، ووزَّعها على حلفائه، والقائلة بأن الوضع الأمني السوداني الهشَّ، يتطلب تقييد العمل السياسي للحفاظ على البلاد..!
ثم انظر إليهم؛ وتفحَّص حديثهم جيداً. سوف تسمعهم يقولون نصاً، إن مواد الدستور المعدل افسحت مجالاً للعمل السياسي المنضبط، نظراً لظروف السودان الداخلية، ونظراً لما تعانيه البلاد من حروب أهلية، ونظراً للوضع الاقليمي المتدهور من حولنا”.
إذاً؛ فالشعبي لا يمانع من تقييد العمل الحزبي، بمزاعم أن هناك مخاطر قد تقود البلاد إلى أتون المحرقة، حال غابت القوانين الرادعة، وهذا من حقه، ولكن لماذا قام ــ قبل مشاركته في الحكومة ــ بأداء الأدوار العبثية، التي تدَّعِي مناصرته لحقوق الأحزاب في ممارسة العمل الحزبي..!
دعونا من “الشعبي”؛ ولاحظوا أن الأسباب التي يروِّج لها “الوطني” للإبقاء على القيود السلطوية، هي نفسها المبررات التي شَرْعَنت بها الحركة الإسلامية لانقلاب الانقاذ. وهي نفسها التي ظلَّت ترددها طوال الفترة الماضية، تخويفاً بفزاعة متوهّمة اسهمها الفوضى..!
حسناً؛ فإذا كان الوضع في حالة “خطوات تنظيم” منذ الثلاثين من يونيو 1989م.. وحتى يوم الناس هذا، فما الذي كان يفعله المؤتمر الوطني أو الحركة الإسلامية، منذ أن قالت للناس إنها أجهزت على الديمقراطية الثالثة، حتى لا تُزهق روح السودان..؟؟!
الصيحة