مقالات سياسية

سِر هُناك

تماضر الحسن

وقفت أنا وهي تحت شجرة الليمون.. تحلّق حولنا عدد من الصبية والفتيات من أولاد الجيران.. اتفقنا على أن نلعب (دس دس) فانطلق الجميع مهرولين على إثر هذا الاتفاق.

بقينا انا وصديقتي تحت شجرة الليمون التي تفتح نوارها.. شجرة يتيمة تقف لوحدها في حوش البيت لها أريجٌ مميزٌ تكاد تذوق له طعماً وهو يختلط مع الحَر الفظيع في ذاك الصيف القائظ.. فالشمس تبرّجت في قلب السماء ومنحتنا سخانة بسخاء منقطع النظير، لم تعبأ به طفولتنا الشقية..

نظرت أنا حولي بحثاً عن مَخبأ يُناسبني، أنا وصديقتي صَاحبة الضفيرتين المعقوصتين على قمة رأسها.. صافح ناظري حوشهم العريض المفروش رملة نَضيفة.. سريرين حديد.. لحاف مطوي بإهمال، تربعت على قمته بطانية كاروهات، تآكلت أطرافها ونحل وبرها.. كومة من (المروق) القديمة رصت الى جانب الحائط.. بقربها كمية من الخردة.. شوية سرائر مكسرات.. كراع تربيزة وجوالات.. كفتيرة وصواني قديمة علاها الصدأ، وكانون ضخم تحطّم معدنه شاهد على قُدور وضعت من فوقه سترت حال أصحاب البيت سراءً وضراءً.. سمايات أعراس طهور وبكيات وغيرو.. فدفع هو المسكين ثمن سترة الحال هذه.. فكرت في الاختباء تحتها جرتني صحبتي من يدي وبعينيها خوف:

لا يا تماضر ممكن يكون في (دبيب) تحت الحطب دا.. أمي قالت لينا الكلام دا قبل كده..
دبيب عديل كده!!!!!!
غاص قلبي.. وبلعت ريقي النشف فجأة، وعدلت تماماً عن فكرتي.. كل شيء ولا الدبايب.. وبدأت أبحث عن مخبأ آخر.. مخبأ لن يخطر على قلب أحد من هؤلاء الصبية الدراويش.
هناك في آخر البيت.. عندهم اوضة بعيدة.. تشبه القراش أو المخزن.. برقت عيناي عندما رأيتها فهذا مخبأ مثالي بكل المقاييس.. وتوجهت نحوه وصديقتي تحاول أن تمنعني من الوصول اليه.. متوعدة ومهددة تارة ومترجية ومتوسلة تارة أخرى..

لكن لا شيء يثنيني أنا….

وصلت للباب الحديدي القديم الذي يشبه أبواب الدكاكين في السوق الكبير.. ولكن لقصر قامتي لم أستطع أن أفتح الترباس المتيبس العاصي..
لكن لا شيء يثنيني أنا….

أتيت بطوبتين وضعتهما فوق بعضهما البعض.. وصوت صديقتي يأتيني متهدجاً من خلفي، وسمعتها تقول بأن أمها لن تغفر لنا ذلك، وأننا سوف نذوق الأمرين، إن خطونا داخل هذه الغرفة وكلام كتير تلاشى أمام صخرة إصراري الطفولي العنيد.. كلام لم يزدني إلا عزماً على المضي قدماً.. اختلط مع صرير الترباس المصدي، وأنا أعافره لأفتح هذه الغرفة العجيبة..
انفتح الباب….
دخلت أنا.. وصديقتي خلفي كالمأخوذ، وقد تحوّل صوتها المتوعد الى همس كالفحيح ارجعي يا تماضر.. قلت ليك ارجعي..
لكني كنت داخل الغرفة اللغز فعلاً..
المكان مظلم به طاقة قرب السقف يدخلها شيء من شعاع الشمس العاملة حفلة بره دي..

دعكت عيني كي أري.. جلت بنظري المشحون بالفضول، ورأيت ثم رأيت شيئاً يبدو كعفش قديم مركون في نهاية الغرفة، بنت عليه العنكبوت بيتها واستوطنت.. رائحة عطنة.. رطوبة خانقة، وغبار كثيف يغطي كل شيء..
بالجنبة.. وُضع عنقريب (مخرطة) عتيق.. أجرد إلا من حبال تقطّعت بهن السبل فأعيد وصلهن بطريقة بائسة..
وسمعتها..!!
سمعت شيئاً يئن.. صوت غريب ترك أذني، وداهم فؤادي الغض الطفل فلم أخف..
أنين.. بكاء.. شيء أشبه بمواء القطط.. أتى من ركن الغرفة المظلم..

التفت الى صديقتي التي وقفت خلفي وقد تجمّدت كتمثال صغير من الشمع.. نظرت إليها مستفسرةً فرأيت دمعاً يبرق في عينيها.. فتقدّمت أنا باتجاه الصوت.. مخلوق جالس على الأرض.. تقدمت أكثر.. حبا نحوي.. نعم حبا ولم يمشِ.. تعثر بصحن موضوع على الأرض به بقايا طعام وقربه كوم (براز).. مددت يدي الصغيرة له فأمسكها ووقف..
كانت فتاة.. عمرها قد يكون في بدايات العقد الثالث.. نحيلة كما الخيال.. شاحبة كعوالمنا التي تعشعش فيها الخرافة.. نظرت إليّ وضحكت ضحكة لا تعني شيئاً.. يا لقسوتنا.. وسألتها إنت اسمك منو.. همهمت وغمغمت واطلقت ضحكة أخرى داوية.. نظرت الى صديقتي التي نكست رأسها.. ثم أتاني صوتها دامعاً.
دي صباح أختي يا تماضر..
يا طول ليلك يا صباح.. ليل نسجه البشر هؤلاء وألبسوك إيّاه.. ليل حيك حولك لا حول لك فيه ولا قوة.

نظرت إليها فنظرت اليّ هي بعينين خاويتين إلا من ذعر وقلة حيلة.. نظرة توسّدت كبدي ساعتها فانفطر.. نظرة لم تفارقني طوال سنين عمري الى تاريخ كتابة هذه الأسطر.. نظرة جعلتني انتمي إليها والى من يشبهها.. نظرة جعلتني جزءاً من عوالمهم هذه وسأظل هناك ما حييت..
نظرة أحزنتني وجعلتني أقودها خارج سجنها بطفولتي التي لم تعِ ما يحدث فعلاً.. تبعتني وهي تقبض على يدي وجسدها يهتز..
وخرجنا الى الضياء….
شهقت المسكينة عندما صافح نور الشمس بشرتها التي ما عانقت الضوء يوماً.. أغمضت عينيها البريئتين لحظة وبقوة وقبضت على يدي بأظفارها الطويلة المُلوّثة، وسال لعابها فوق رأسي وبلّله.. ولم أجفل رغم صغري، وواصلت التحديق نحوها وتشجيعها على المسير والخروج من كهف عزلتها هذه..
تقدمت خطوتين وتعثرت وسقطت مني أرضاً..

ولم تحتمل المسكينة كل هذا.. فبدأت بالصراخ.. صراخاً شق عنان السماء، واختلط بصوت صديقتي المرتعد بأن هذا ما ح يعدي على خير.. فشلت كل محاولاتي لإسكات (صباح) وتذكّرت قطعة حلوى في جيبي فأخرجتها ونفحتها إياها.. لون الحلوى الزاهي وغلافها اللامع شتّتا انتباهها لحين.. لم تفهم ماذا تفعل بها.. فوضعتها أنا في فمها وأعجبها طعم السكر، فطفقت تمضغ ولعابها يبلل صدرها، وفرحة حلوة ارتسمت في وجهها، وهي تلمس وجهي وشعري بيديها النحيلتين.. فقبضت يدها وقبلتها..
فرحت أنا.. فرحت جداً وجثوت على ركبتي أمامها أتأملها كأني ما رأيت بشراً قط في حياتي..
وأتت (أمها) .. وصدمت عند مشاهدتها للمنظر، وتوعّدتنا بالويل والثبور وعظائم الأمور.. أخذت صباح بكل قسوة العالم (أو هكذا خلتها) ووضعتها في (سجنها) ذاك وأغلقت الباب..
وذهبت لا تلوي على شيء وصراخ صباح يشق عنان السماء ويشق قلبي..
لصغري لم أفهم أن صباح مُختلفة.. لم أستطع أن أفهم لماذا فعلت أم صباح هذا.. لم أحس بشيء غير ذلك الألم المُمض الذي اجتاحني من قمة رأسي الى أخمص قدمي..

رعب شديد تملكني.. سؤال تردد في رأسي الصغير حينها.. إذا صرت الى ما صارت إليه صباح.. أهكذا سيكون حالي!!
هرولت أنا لأمي التي كانت تجلس مع النسوة حينها، وارتميت في حضنها حتى كدت أصير جزءاً من نقوش ثوبها الفاتن.. تمرّغت في حضنها الوثير وعطونة القراش الموحش تسكن مني المسافة بين عيني ورمشي.. ونظرت الى عينيها بحثاً عن وجه أم صباح..
حمداً لله لم أجده.
فابتسمت لي العزيزة بمحبة ومحنة أرجعت قلبي المرتعد الى مكانه، وطامنت روحي التي تطايرت شعثاً، فدفنت رأسي في حضنها لأتكرف عطرها ورحمتها ونبض قلبها الذي أعشق..
كبرت..
وعرفت بأي ذنب قتلت صباح.. ورأيت صباح عند الكثيرين باختلاف درجات المعاناة والمرض.. صباح في الحلة.. وعند الأصدقاء.. وفي المدرسة.. فقوى انتمائي الى عوالمهم.. وصفى لهم قلبي.. وامتدت جسور تواصل خفيات بيني وبينهم.. اخترت أن أهب لهم حياتي وأن أقضي عمري بينهم.. أفتح باب الحديد المصدي بكل أشكاله ومسمياته، واقتادهم نحو الضياء ما أوتيت لذلك سبيلاً.. حتى وإن استدعى الأمر الى أن أرص كل طوب الأرض لأصل لذلك الترباس اللعين في كل..
مثلي فقط يحتاج لمن يرص هذا الطوب معه وهذا أضعف الإيمان….
هم صباح فلا تحرموهم من صباح العافية.. وصباح محنتكم وتفهمكم ودعمكم.. الى كل أسرة بها صباح كل المحبة..
ملحوظة..
صيغت القصة بطريقة لا تشي بأصحابها.. والأسماء من صباح أفكاري.

تماضر الحسن
التيار

تعليق واحد

  1. وجود مثل هذه الحالة ، وكل المأسئ الاخري هي من اسئلة الوجود التي تكاد ان تفسد طعم الوجود نفسه !! لكن ، اليس الوجود نفسه لغز كبير ؟!

    علي نغمة اخرى !! صوبوني يا جماعة اذا انا غلطان ! ، باين ابناء المثلث ديل حقيقة معزورين بالحيل !! قولوا لي كيف ؟! الواحد فيهم يصحى صباح الرحمن ، يتلفت يمين شمال ، يعاين ” للكنداكات السمحاااات ” المعاهو في البيت ديلن !! وتشيلو الهاشمية ! يدق سدرو “ذي نظام كنج كونج ” داك ! ويصيح : البلد دي بلدنا و نحن اسيادا ، وحانحكما لحدي ما نسلما لعيسى هههه!! والله تخيولي دا ما في محله ؟؟!!

  2. كتابة جميلة ومعبرة، من قلم رشيق و وجه جميل . ننتظر المزيد، وفقك الله.

  3. وجود مثل هذه الحالة ، وكل المأسئ الاخري هي من اسئلة الوجود التي تكاد ان تفسد طعم الوجود نفسه !! لكن ، اليس الوجود نفسه لغز كبير ؟!

    علي نغمة اخرى !! صوبوني يا جماعة اذا انا غلطان ! ، باين ابناء المثلث ديل حقيقة معزورين بالحيل !! قولوا لي كيف ؟! الواحد فيهم يصحى صباح الرحمن ، يتلفت يمين شمال ، يعاين ” للكنداكات السمحاااات ” المعاهو في البيت ديلن !! وتشيلو الهاشمية ! يدق سدرو “ذي نظام كنج كونج ” داك ! ويصيح : البلد دي بلدنا و نحن اسيادا ، وحانحكما لحدي ما نسلما لعيسى هههه!! والله تخيولي دا ما في محله ؟؟!!

  4. كتابة جميلة ومعبرة، من قلم رشيق و وجه جميل . ننتظر المزيد، وفقك الله.

  5. رمزية عميقة الدلالة..بس كان تقولى قراع النعقريب وضع فى الشمس عشان المرقود ..تعرفى المرقود..تلاشى الان..
    النهاية كانت ليس درامية استعجلتى النهاية ..اذا هناك بقايا حياة لن يكون القفل مصدى..
    اين بقية البنوت .. يفترض يجتمعن بانهم لم يحصلوكم وبعدها يصير شبهه مظاهرة من بقية البنوت وتتحول صباح الى اللعبة الجديدة فيها فرحة وفيها دهشة ويتحلقن البنوت حول صباح…
    البنوت والتحلق يمثل احتجاج الضمير الخفى الجمعى البريء ..
    لك التحية على السرد ..القصة تحتاج الى بهرات لتكون اكثر سبكا ..

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..