سياحة الغرائب

في سياحة قمت بها مؤخرا في الإنترنت، بحثا عما أسميه: خامات الكتابة، وهي تلك الغرائب التي يتم تداولها كحقائق مطلقة، وتلهب الخيال، تمنحه سعته الكاملة، ويمكن أن توظف بطريقة ما في نص ما، تعثرت بأشياء كثيرة. أشياء تبدو بذورا لروايات ممعنة في سحريتها، لكن من يتحدث بها وعنها لا يبدو أبدا منبهرا، أو يقصد إبهار أحد، بل ربما أنتجت أصلا ووضعت على الإنترنت بلا أي هدف سوى أن توضع على الإنترنت. ثم يأتي دور المتلقين، أو المعلقين، الذين يتكالبون على الحدث، ويستخرجون منه إشارات وكرامات، وخوارق، ويأتي واحد مثلي مغرم بالواقع المختلط بالسحر، ليستخرج منها خاماته.
لقد اعتدت منذ زمن طويل على البحث عن الغرابة، وكنت في ما مضى أبحث عنها في منابعها، هناك في أماكن «سيرة الوجع» وما جاورها من السير المرهقة، الكئيبة، في الأسواق البعيدة، والمستشفيات، وأماكن السكن العشوائي، والشوارع الضاجة بالحفر، وهكذا. لكن الإنترنت، وكما اختصر على كل الباحثين في شتى المجالات وقتهم، وزودهم بالمراجع الطويلة المملة، أيضا زودني وزود غيري بما نبحث عنه، ونحن جالسون على طاولات الكتابة.
هذا لا يعني أن تتوقف قراءة الكتب، التي هي زاد أبدي للمعرفة كما أتصور، ولكن يعني رصد تلك المفارقات التي لا توجد في الكتب، وكانت متفرقة في الأماكن، والآن التمت، بهذا الزخم الكبير.
في إحدى المرات، كتبت عن مغن طويل، ممتلئ الجسم، يؤدي أغنية بصوت لا يشبه تكوينه، في مسرح كبير، وأمامه المئات، يرددون مقاطع أغنيته، ويرقصون، وصعد في اللحظة نفسها رجل أفرط في شرب العرق، كما يبدو، واستخف به الطرب، كما يقولون، ليرقص أمام المغني، حاجبا عنه النساء الجميلات المتأنقات المبتسمات، اللائي كان يتخذ من جلوسهن المليح أمامه وقودا يساعده على الاستمرار في غنائه. المغني حاول أن يهش المتطفل، أن يراوغه، ليبدع من ثغرات يحدثها في التصاقه به، لكن المتطفل لم يمنحه أي فرصة، وتأتي لحظة الحمق، حين يمسك المغني بالرجل، يحمله بين يديه كطفل، ويكمل وصلته الغنائية، غير عابئ بما حدث من صخب، وهرج وضجيج، وحين انتهى، ألقى بالرجل المفرط في السكر، أمام الجماهير. هذا مشهد غريب لا يتكرر كثيرا، وكل من قرأ ما كتبته ظنني أخترع أو أفعِّل الخيال في كتابة نص، لكني لم أكن أفعل، كنت أكتب عن مغن أعرفه، وصادقته زمنا، وحضرت ذلك المشهد الذي لن يغيب عني أبدا.
أيضا كتبت عن إمام النجار، والمغني الموهوب، الذي يستغرق تلحين القصيدة عنده ثلاث دقائق فقط، وتستغرق صناعة طاولة عادية جدا وفقيرة جدا، وليس فيها أكثر من أربع أرجل، خمسة وعشرين عاما. إنه فنان حقيقي، وقد يكون صانعا ماهرا، لكن الغرابة جعلته يصنع الغناء في لمح البصر، ولا يستطيع التفاعل مع الخشب بالقدر نفسه. هذا أيضا من الشخصيات الممكن كتابتها، والتي قطعا تبهر، وهي لا تقصد الإبهار بأي حال من الأحوال.
ما يجمعه الإنترنت بالتأكيد أغرب، وأوسع انتشارا في المخيلات، بفضل وجود تلك التقنية الجبارة التي صنعت للنميمة في المجتمعات أجنحة إلكترونية فذة، تطير بها إلى أي مكان تريده، في لحظات فقط. تلك النميمة التي قد يكون فيها نفع ما، وقد تكون ضارة، وقد تكون سامة أيضا، تؤدي إلى الخراب.
المشهد غريب فعلا، هناك رجل من إحدى القرى العادية، جاء بسرير من الخشب، منسوج بالحبال، وضعه على عراء، في أحد أطراف القرية، وجلس عليه، ولم ينهض عنه ثلاثة وعشرين عاما. هو يقول بأنه لا يستطيع النهوض لأنه أمر بأن لا ينهض، ومحاوروه يسألونه عن الآمر، ولا يستطيع الرد، هو مأمور ويطيع، ولا شيء آخر.
أظن الأمر يبدو غير معقول أن تجلس بإرادتك في العراء، تلهبك الشمس، ويرجمك المطر، وتتعاقب عليك الفصول، وينهض العالم من حولك، يتقدم أو يتأخر لا يهم، يكبر الصغير، ويهرم الكبير، أو يموت، وتتعاقب الحكومات، ويخترعون أشياء لم تكن موجودة، ويلغون أشياء كانت موجودة، وتأتي الهواتف الذكية لتصور جلستك، وتظل جالسا على سرير الحبال. هذا تطرف في الغرابة، ولو كتبته في أي نص روائي لدخل في عالم السحرية، غير الواقعية. هو يقول بأنه يعيش حياة البشر كما هي، لكن حياة البشر فيها أشياء كثيرة جدا، تتطلب أن ينهض الجالس من جلسته والنائم من رقاده، ينظف المتسخ اتساخه، والممتلئة مصارينه لابد ينهض ليفرغها. لا إضافة على الإطلاق على ما شاهدته، وأظنني حتى لا أستطيع كتابته بغرابة أفضل من غرابته الحقيقية. لقد جاء رجال دين يحملون الصلاح، والأدلة والبراهين، جاءوا من أماكن بعيدة، وجلسوا محاورين للرجل، يريدون أن ينهض جمعة من مجلسه، وجمعة مقيد بحبال غير مرئية، لعلها حبال وهم هو من نسجها، وسجن بها نفسه.
شيء غريب آخر في قصة الفتاة التي نشطت غدتها الدرقية، وتطلب أن تعالج بعملية جراحية في مستشفى ما، لكنها لا تملك تكاليف تلك العملية، وهي في العادة تكاليف قاسية، لأن إزالة الغدة الدرقية تتطلب وقتا ودقة، واحتراسا حتى لا تزال معها الغدة فوق الدرقية، وتحدث مضاعفات وتشنجات.
الفتاة نامت وحلمت برجل صالح مات منذ عهد، يأتيها في النوم، ويخبرها بتشخيص المرض، وأنه سيقوم بإجراء العملية لها بنفسه، في وقت محدد، ويزودها بتعليمات شبيهة بتعليمات الجراحين، مثل الهدوء والاسترخاء، والمحافظة على ضغط الدم، والصوم، وتنظيف الغرفة، ثم يخرج زوجها ليتركها للميت القادم من بعيد ليقوم بإجراء الجراحة. هي تستسلم ولا تصرخ، وحين ينتهي كل شيء، تخرج إلى أهلها والشاش يحيط برقبتها، لقد تمت العملية بنجاح. في الأيام التي تلت ذلك، يأتي الميت الصالح ليغير لها الجرح، يأتي بالمطهر والشاش المعقم، وكل لوازم تغيير الجروح المعروفة.
هذه كبيرة حتى على الخيال، ولا أظن الروائيين المولعين بالغرابة، والذين يستخدمون خيالهم بكثافة، يستطيعون أن يعبروا إلى جهة تلك الحكاية بسهولة. لقد حاولت في ما مضى أن أتفاعل مع أشياء معنوية، تذكر دائما على أنها أتت في رؤى من الصالحين، مثل أن يقول أحدهم: لقد وضع الشيخ يده على رأسي فزال الصداع، ومثل أن تقول امرأة عاقر: بصق على أسفل بطني فحملت بعدها بتوأم، ومثل أن يقول عجوز: شفت ركبتاي حين مسجهما لي شيخي المرحوم، هكذا. لكن أن يأتي المرحوم بالديتول، وصبغة اليود، والشاش المعقم، ومشرط لإجراء الجراحة، هذا كبير جدا على توقع خيالي، ويصعب فعلا أن أتفاعل معه، إلا باستلهامه في نص.
عموما، هذا العصر، وأعني عصر الغبار الإلكتروني الذي يمكن أن تردم به أي هوة، اعتدى على الدهشة كثيرا، لم يعد هناك ما يدهش فعلا، تلك الدهشات التي يمكن أن تقتل أحدا، كل شيء ممكن وممكن جدا. قديما حين تعثر على مدرسك أو بنت الجيران مثلا، في مكان موبوء، تصيبك الدهشة أولا، ثم تظل أياما تردد لا يمكن، لا يمكن، لا بد أنني مخطئ.
الآن كم مرة يمكن أن نردد: لا يمكن؟
ولا مرة كما أعتقد.
كاتب سوداني
القدس العربي
لاتنس ان صاحبك ماركيز ما طبقت شهرته الافاق الا لانه يغرف من الخامات التي تبحث عنها .. حكي ان جارتهم الشابة هربت مع عشيقها فلون اهلها الواقعة درءا للفضيحة قالوا انها كانت تنشر ملاءات مغسولة فطارت الي السماء واثبت ذلك في احدي قصصه مبررا انها في رايه اجمل من حقيقة الهروب ..يا صاحبي الا تري ان الياذة واوديسة هومير هما غرف بلا هوادة من ذلك ..اكثر ما ادهشني هو انعام اله الشمس التي ذبحهارفاق اوديسيوس وتعرضوا لهجوم من جلودها ومن زوابع اله الشمس ارعبتهم فهربوا ..مصدر الدهشة انها تشابه حادثة التمامي في الطبقات استولي التمامي علي المواشي واهان شيخ القرية وهو الترابي الكبير وسيد الاسم .. لما اكلوا بعض ما ذبخوا منها انتفخت بطونهم واخذوا يضرطون باصوات منكرة مما حدا بهم باستدعاء المملوكات بالدلاليك حتي يخفين صوت الضراط !!
لاتنس ان صاحبك ماركيز ما طبقت شهرته الافاق الا لانه يغرف من الخامات التي تبحث عنها .. حكي ان جارتهم الشابة هربت مع عشيقها فلون اهلها الواقعة درءا للفضيحة قالوا انها كانت تنشر ملاءات مغسولة فطارت الي السماء واثبت ذلك في احدي قصصه مبررا انها في رايه اجمل من حقيقة الهروب ..يا صاحبي الا تري ان الياذة واوديسة هومير هما غرف بلا هوادة من ذلك ..اكثر ما ادهشني هو انعام اله الشمس التي ذبحهارفاق اوديسيوس وتعرضوا لهجوم من جلودها ومن زوابع اله الشمس ارعبتهم فهربوا ..مصدر الدهشة انها تشابه حادثة التمامي في الطبقات استولي التمامي علي المواشي واهان شيخ القرية وهو الترابي الكبير وسيد الاسم .. لما اكلوا بعض ما ذبخوا منها انتفخت بطونهم واخذوا يضرطون باصوات منكرة مما حدا بهم باستدعاء المملوكات بالدلاليك حتي يخفين صوت الضراط !!