إنهيار الدولة الحديثة في البلاد العربية

قديماً كانت ندوات ومحاضرات الشيخ الترابي تثير الناس وتحرك الشعور العام ، كان الترابي متعهد النظريات الكبري يطرح الأسئلة المعقدة ويقدم الإجابات الجريئة ، أقواله تكتب عنها الصحافة أياماً وليالي ، وتحكي عنها همسات المدن في أمسياتها المخملية ، للأسف من بعده رحيله إفتقدت القاعات والساحات الألق والدهشة ، كل الأحاديث والأفكار التي تقدم من المثقفين أصبحت في خانة الإعتيادي والمتوقع ، في ظل هذا البؤس والفراغ العريض تداولت الوسائط الإعلامية بعد إجازة العيد إعلان محاضرة للدكتور التجاني عبدالقادر حامد ، و الطبيعي من عنوان المحاضرة وصاحب المحاضرة ، ان تُحدث محاضرته أثراً وهزة في هذا السكون العجيب الذي أصاب الساحة السياسية والفكرية ، ولكن المدهش ان التعليقات علي المحاضرة في الوسائط الإعلامية أهتمت بالشكوى من ضيق المكان وسوء الترتيب ، لم يتناول أحد ما قدمه الدكتور التجاني من أفكار ورؤي ، القليل من الكتابات قدمت بعض العبارات والمقولات التي أجتزأت من المحاضرة و كأنها تنتفها نتفاً .
اجتهدت في البحث عن المحاضرة التي قدمها دكتور التجاني بجامعة الخرطوم في صفحات النت ولم أحظي بها وكنت أشد حرصاً علي سماعها فما يملكه التجاني عبدالقادر من مقدرات فكرية مهولة تحفز علي هذا الإجتهاد ، ما يميز الدكتور التجاني عبدالقادر أنه اختط مساراً خرج به عن النمط السائد في تفكير الحركة الاسلامية تجاه قضاياها الكلية ، قدم الدكتور التجاني أطروحة عن الفكر السياسي وصفها الدكتور طه جابرالعلواني بأنها أهم مساهمة فكرية في القرن الحالي ، وقدم رؤية متقدمة سعي من خلالها لإستنباط نموذج للنظام الاجتماعي في الاسلام من مفاهيم القران الكريم وأحكامه الجزئية ينتهي الي تركيب نظام إجتماعي معاصر ، وشخصية بهذه المواصفات تستحق الإهتمام والإستفادة من رؤيتها في رسم معالم المستقبل .
في أثناءالبحث وجدت محاضرةأخري لدكتور التجاني فيها ذات المواضيع الذي سمعت من بعض الحضور أنه قد تناولها في محاضرة جامعة الخرطوم ، كانت محاضرة في العام 2015 في وأحدة من العواصم العربية و كانت بعنوان ظاهرة إنهيار الدولة في المجتمعات العربية المعاصرة ، قارنت بين المحاضرتين بعد مشاهدتي في قناة سودانية 24 محاضرة جامعة الخرطوم ، وهي تقريباً ذات المحاضرة القديمة لم تتغير ، ذات اللغة وذات الأفكار وذات الأمثلة ، مع بعض الإختلاف الطفيف ، في المحاضرة القديمة كان الدكتور التجاني أكثر ارتياحاً و أكثر تألقاً وأكثر قدرة علي توصيل فكرته ، لم يعاني انسابت أفكاره بترتيب سلس ولغة رصينة ، لكن علي العموم ما قدمه في المحاضرتين يحمل رؤي فلسفية عميقة و فيه إجابات موضوعية علي الواقع الراهن .
الرؤية الموضوعيةالتي قدمها دكتور التجاني عبدالقادر في محاضرته تستحق ان تعرض علي الناس ، صحيح أنه يغلب عليها الطابع الأكاديمي الصارم لكنها تعد من أفضل الندوات في الفترة الأخيرة التي تناولت الواقع السياسي من بوابة الفكر السياسي الرصين ، ولذلك أستميح القارئ ان أجمل وألخص له رؤية الدكتور التجاني في هذه المحاضرة القيمة ، لعل أفضل ما بدأ به محاضرته عن سقوط الدولة الحديثة في العالم العربي هو ان موضوعات السياسة محض قراءات واجتهادات وليست قطعيات ونهائيات ، ولعل هذا القول يغني عن كثير من الجدل الذي يولد التعصب الأعمى للرأي ، جوهر المحاضرة كما بينها انه يريد ان يقدم مادة تفيد في فهم ظاهرة الدولة في المجتمعات العربية ولعله بدأ كما قال بسؤال نفسه كيف لهذه المجتمعات العربية التي تتشابه في نخبتها وفي مشكلاتها ورغم هذا التشابه حد التطابق بعضها يصمد وبعضها يسقط ، وحتي يجيب علي الأسئلة التي طرحها علي نفسه أختار أربعة من المفكرين ليضع هذه الظاهرة في سياق البحث العلمي ، ولم يركن للإجابات السهلة لأنها لا تصمد عند الإختبار الأكاديمي الرصين .
أول الشخصيات التي اختارها العالم العربي الكبير ابن خلدون وهو غني عن التعريف في عالمنا العربي ، ولكن دكتور التجاني يعتقد ان ابن خلدون لم يُكتشف بعد في العالم العربي ، وعلي العكس من ذلك يري ان العالم الغربي عرفه حق المعرفة واستفاد تمام الفائدة من أطروحاته حتي وان لم يتم ذكر ذلك في كتابات فلاسفة الغرب ، النظرية التي عمل عليها هي نظرية العصبية عند ابن خلدون وهو أول من صاغ هذا المفهوم وأتخذه أداة لمعرفة هرم الدولة وزوالها ، وابن خلدون صنف مراحل الدولة بخمسة مراحل ، الظفر والتأسيس والإستبداد والترف والهرم ، وبناء علي ذلك قال بشيخوخة الدولة و إنهيارها وربط ذلك بتأكل العصبية ، و يري ابن خلدون ان العصبية تضمحل في الجيل الثالث للدولة ، وان تلاشي العصبية مربوط بالإستبداد والترف ، وان الدولة تسقط لأن صاحبها تخلي عن العصبية التي جاءت به للحكم ، وهذا السقوط قد يتأخر اذا لم تجد الدولة مغالب يسعي الي خلافتها ، يري دكتور التجاني ان هناك تطورات لم يدركها ابن خلدون، أول هذه الأشياء ظاهرة الدولة الاستعمارية وهي التي غيرت المجتمع الاسلامي وقسمته الي مجتمعين ، مجتمع تقليدي ومجتمع حديث ، اضافة الي تطور اخر لم يضع له ابن خلدون حساب وهو إستجلاب الدولة كجهاز حديث ، ويستدرك علي ابن خلدون ان امكانيات الدولة الحديثة العالية وقدرتها علي التجديد وإستيلاد عصبيات جديدة تمنع سقوط الدولة بالشيخوخة في فترة أربعين سنة كما يري ابن خلدون .
الشخصية الثانية هي شخصية البرت حوراني وهو شخصية أكاديمية من أصول عربية جمع كل الوثائق المتعلقة بالشرق الأوسط ، أهميته ان له رؤية قدم فيها استدراكات علي نظرية ابن خلدون عن العصبية ، والنقطة التي بدأ حوراني منها هي كيف يكون هناك اضطراب اجتماعي واستقرار سياسي ، الاجابة التي توصل اليها ان الأسباب في ذلك هو وجود نخب ذات تماسك شديد لها قدرة علي ربط مصالحها بالشرائح النافذة في المجتمع ، ويري ان تحالف المصالح وحده لا يكفي لأنه بدون فكرة لا تستطيع ان تكتسب مقبولية ، ويري ان العصبية ليست بالضرورة ان تكون عشائرية بل يمكن ان تكون حزبية او عصبية مناطقية ، ويري حتي ان الايدلوجية أحياناً تحتاج الي سياج عشائري وعصبية ، ويري حوراني ان هذه العناصر تؤدي الي التماسك لكنه تماسك هش ، وقد ينقلب الي ضده لان العصبية يمكن ان تتأكل و تذبل اثناء الصراع حول السلطة ، وان الأيدلوجية تتحول الي شعارات من أجهزة الدولة وتفرغ من محتواها ، كما حدث في القومية العربية و الماركسية التي تحولت الي مجرد شعارات ، وان العصبية الجديدة تدور مع مصالحها الاقتصادية وتتحالف مع من يتولى السلطة ، وعندها يكون الحل في الاعتماد علي أجهزة الدولة ولكن تشعب هذه الأجهزة سيودي الي التنافس الذي يؤدي الي الانقسام والتشرذم ونشوء مراكز القوي ، و عند السقوط تصبح كل هذه الأجهزة عاجزة عن التصرف ، ويري ان المستفيد من تنافس الاجهزة هو الرئيس وهو المحرك الذي لا يتحرك وقد يكون هو المغذي لهذه التنافسات ، ، يري دكتور التجاني ان التطبيق العملي علي هذه النظرية يصدق تماماً مع حالة الثورة التونسية ولكنه يقف عاجزاً عن قراءة الحالة السورية ، والميزة في سوريا أنها جددت العصبية ، ابتدأ من التيار الشيعي والأيدلوجية البعثية والأسرة الاسدية والطائفة العلوية ، كل هذه العصبيات جعلت من سقوط النظام في سوريا صعباً جداً .
الشخصية الثالثة وهي شخصية صمويل هنتنجتون صاحب صدام الحضارات ويري دكتور التجاني ان صدام الحضارات ليس من أعمق كتبه وليس من أهمها حتي ، حيث يري ان كتابه الأهم هو النظام السياسي في مجتمعات متغيرة وهو كتاب غير من مفهوم العلاقات الدولية في امريكا و التي كانت تقوم علي نظرية التنمية والتحديث وهي تتحدث عن ان التنمية تنتج التطوير ، هنتنجتون اعترض علي نظرية التنمية والتحديث في العالم الثالث ويري ان التنمية الاقتصادية ليست بالضرورة ان تقود الي التطوير والتحديث وان السياسية متغير مستقل ، وطرح سؤال جوهري هل هناك تأثير لعوامل خارجية وهو ما فعله هانتغتون من اضافة وتطوير لنظرية ابن خلدون وحتي ان لم يذكر ذلك ، وعلي ضوء ذلك وضع نظرية الفجوة ، ومحتواها ان الثورات لا تحدث في المجتمعات التقليدية الساكنة التي لم تصل اليها الحداثة ، ولا تحدث في المجتمعات الحديثة التي تمكنت فيها الحداثة والعلمانية والتنمية الاقتصادية ، وانما تقع في المجتمعات الانتقالية وهي التي بين الحداثة والتقليد ، وان الثورات تقع حين تتمكن دولة حديثة من تفكيك المجتمعات التقليدية حينها تتمكن من إحداث تطور إقتصادي وإجتماعي ولكنها تعجز عن استيعاب القوي الإجتماعية الجديدة في المؤسسات السياسية الجديدة فتحدث فجوة بين المجتمع والدولة بسبب التطور الاقتصادي والتخلف السياسي وعندها يحدث الانفجار ، وضرب مثلاً علي ذلك بالإمبراطور الاثيوبي هيلا سلاسي حيث يري انه كان ضحية نجاحه في التطور الإقتصادي وتخلفه السياسي .
الشخصية الرابعة وهي تلميذة صمويل هنتنجتون تدعي تيدا سكوتشبول وتأتي أهميتها أنها عدلت في نظرية هنتنجتون ، والسؤال الذي طرحته كيف يتحول السخط الي فعل ثوري وحده ، وطرحت نظرية العلاقات الرأسمالية العالمية ، وجوهر تعديلها علي نظرية هانتغتون ان الثورة لا تندلع لمجرد وجود فجوة بين التطور الاقتصادي والتخلف السياسي وانما تندلع بعد ان يصاحب الفجوة انهيار مؤسسات السيطرة والقهر ، ويلازم ان تكون هذه المؤسسات منضوية تحت نظام تسلطي يعتمد علي القوي الرأسمالية الخارجية ، ويحدث ذلك عندما يبطش النظام وينغلق علي ذاته ، ويقوم بإضعاف القيادات السياسية المعتدلة و الطبقة الوسطي ويطهر المؤسسة العسكرية من العناصر الثورية الصلبة ، ويسعي الي تكوين منظومات عسكرية موازية ، وهو بذلك يحكم علي نفسه بالإعدام ، وهذا الوضع يسمح بتكوين حلف ثوري عريض ، وهو ما يستدعي الخوف من الرأسمالية العالمية علي مصالحها، وحينها تقدم النصح بعمل اصلاحات ديمقراطية او التنحي ، ويري ان الحالة المصرية تجسد الواقع العملي لهذه النظرية .
عموماً هذه المحاضرة يمكن بلا شك وضعها ضمن المحاضرات القيمة في تاريخ الفكر السياسي السوداني ، وعندما يكون المدخل الي عالم السياسية من بوابة الفكر قطعاً تتنزه عن البؤس الذي ظل يلازمها منذ سنوات طويلة في بلادنا ، ولعل هذه المحاضرة تذكرنا بتاريخ قديم حينها كان المدخل الي حل قضية الجنوب في ستينات القرن الماضي أطروحة فكرية عميقة قدمها الدكتور حسن الترابي في محاضرة سياسية بجامعة الخرطوم .
[email][email protected][/email]