كانت لنا ايام.ز مدرسة مدنى الاهلية (3)

توقفت بكم ايها الاحباب فى نهاية الحلقة الثانيه على وشك بداية دراستنا المرحلة الوسطى فى الصرح العظيم اعتبارا من اول ايام الاسبوع الثانى من شهر ينايرمن عام 1945.. ولكنى – قبل الانطلاق بكم فى آفاق سنوات الدراسة الاربع تحت رعاية من نذروا انفسهم لهدايتنا وارشادنا واكسابنا الوفيرمن المهارات الحياتيه وفتح آفاقنا لمستقبل واعد وزاهر وغرس الرغبة الدافقة فى نفوسنا لمواصلة التعلّم والسعى للمزيد من االعلوم والمعارف طوال سنوات حباتنا والى تعشّق البعض منا للتعليم فى شخوصهم واتخاذه مهنة فى لواحق من الايام .. كانت المواد الدراسيه وما احتوته من اهداف وقد عكف الذين احسن مجلس امناء المدرسة مع من توليا قيادة العملية التربوية فيها ?اختيارهم من المعلمين – لتعليمنا اياها جنبا الى جنب مع المناشط الصفّية واللا صفيه المتعددة وهى التى كانت احدى وسائلهم لآكتشاف دواخلنا والتعرّف على ذواتنا وميولنا واتجاهاتنا وقدراتنا مما يسهّل عليهم ارشادنا وتقويم سلوكيات بعض من كانوا من حين لآخر يحدون عن جادة الطرق سعيا للعودة بهم الى المسارات القويمه وصولا بهؤلاء واولئك الى برالامان ? اثرت قبل هذا وذاك ان اذكر بكل الاجلال والاكباربعض من لا تزال ذاكرتى تختزن اسماءبعضهم وتلوح على الدوام فى مخيلتى صورهم.. اولئك الرجال الاوفياء افراد تلك المنظومة الخيّرة من اهل المدينة الباسلة..وهم اصحاب الفضل..كل الفضل فى قيام الصرح الكبير ورعاية الدارسين فيه طوال سنى “اهلية المدرسة” والسعى الدؤوب للارتقاء به بتوفير متطلبات الدرس والتحصيل وتزويده بكل ما كان يصب فى مواعين اسعاد طلابه اثناء سنوات الدراسة وما بعدها.. اولئك الرجال الاوفياء الذين ظلوا يجودون بمالهم وبوقتهم فى اريحية وسخاء منقطع النظيرلم يكونوا ينتظرون جزاء او شكورا الآ من رب غفور كريم جزاء وفاقا لما قدّمته ايديهم للخروج بابناء المدينة المعطاءة وما جاورها من قرى الجزيرة الفيحاء من ظلمات الجهل الى انوار المعرفة واسعاد اهليهم الاقربين واهل السودان كافّه بما ظلت المؤسسة التربوية تهديه لمؤسسات التعليم الثانوى والجامعى عاما بعد عام من كتائب خريجيها منذ اليوم الاول من عمرها الى ان آل آلتعليم الاهلى فى عام 1956 الى وزارة المعارف لتتولى ادارة شؤونه اكاديميا وماليا اسوة بما كان تحت اشرافها الكامل من المدارس الحكوميه. انهم المؤسسون الاوائل..امناء الصرح الكبيرالذين كانت تُعرف منظومتهم بأسم “لجنة المدرسة الاهليه”..كنا نراهم فى زياراتهم التفقدية التى لا تنقطع .. وقوفا على مسار العمل التربوى والتعليمى وتذليلا لكل ما يعترض طريق المزيد من تحقيق النجاحات المضطردة يوما بعد يوم. كان منهم احيانا من يطوف الفصول ومنهم من كان يخاطب التلاميذ فى طابورالصباح حينا بعد آخريحثونهم على الانكباب على الدرس والمثابرة واتباع النظم والضوابط المدرسية ولا ينسون تذكيرهم بطاعة الآباء واولياء الاموروالمعلمين ذاكرين فى نهاية تطوافهم داخل حجرات الدراسة او خارجها بالالتزام بدفع اقساط الرسوم الدراسية فى مواقيتها. مثلما كان ذلك النفر الكريم من كبار اهل ودمدنى سِنّا وقدرا ومقاما يلتقون بالمعلمين تعرفا عليهم عن كثب احكاما لترابط كل اطراف العملية التعليميه .
مما علمناه من بعص الذين التقيناهم فى لواحق من الازمان من اساتذنا الاجلاء قبل وبعد التحاقنا بالتعليم ومن احاديث استاذ الاجيال العزيز الراحل مصطفى ابو شرف على مر الدهور الذى كم كنت اسعد بلقائه ابّان فترات عملى فى مختلف المواقع التعليمية فى السودان قبل انتقالى الى الولايات المتحدة ومن خلال ما كان يتحفنى به من رسائله المتواصلة التى كانت تفيض باشادته بمن زاملوه من معلمينا فى تلك المؤسسة وبما كانت تجده المدرسة من دعم متواصل من اعضاء اللجنة لغيرالقادرين على الوفاء “بالصروفات المدرسية” بازاحتها عن كاهلهم فضلا عن ايواء وكساء اولئك اوهؤلاء من طلاب المدرسة .فقد تبين لى ان تلك المنظومة الخيرة من الرجال كانت تعمل فى تناسق فريد.. يدا واحدة فى تقديم كل ما كانت تحتاجه المؤسسة من دعم واسناد دون ان يظهر امام الناس من كان رئيسا لها او يتقدم افرادها فى القيام بمهامها وتنفيذ قراراتها وانزالها الى ارض الواقع..ألآ انه وبطبيعة الحال ولضرورة تنظيم العمل وسرعة انجازه كان لا بد ان تسند الى احدهم رئاستها لقيادة اجتماعاتها واجراء الاتصالات بالجهات ذات الصلة..ولذا كان لا بد ان يتم اختياراحدهم اجماعا على شخصه ليتولى رئاسة اللجنة..كان هو المرحوم عثمان ابو العلا الذى كانت يسراه لاتعلم ما قدمته يمناه للمدرسة اولغيرها من المؤسسات تعليمية كانت اواجتماعية..كان يقود حملات التبرع بادئا بنفسه فى غيراعلان ..وكان يشاركه قيادة رعاية الصرح الكبيرالمرحوم احمد الحضرى..”سكرتير اللجنه”..الرجل الذى عُرف فى مجتمع المدينة فى كل قطاعاته بكل الفضائل الانسانية وتقدم الصفوف فى الافراح والاتراح ..يواسى المرضى ويسيربين المشيعين مثلما عُرفت كلماته فى كل محفل او مقام بالحكمة وفصل الخطاب.. مثلما كان امين المرضى..الذى وقع عليه الاختيار ليتولى ادارة المال..ذلك الرجل الفذ من كان يتم انتخابه رئيسا “للمجلس البلدى” لدورات متعاقبات سنين عددا.. صاحب الشخصية ألآسره..جمّة التواضع والذى كانت تفيض ملامح وجهه “البشوش” املا وتفاؤلا والذى كان لكل حرف ينطق به لسانه تاثيرا لا تحده حدود فى نفوس سامعيه.. كنت اتشوق لمصاحبة الوالد الى سوق المدينه لندلف الى مكتبه جوار اجزخانة الجزيرة (ان لم تخنى الذاكرة) لنستمع الى نبرات صوته وهوباسم مستبشر.. امّا الشيخ ابوزيد احمد.. تعجز الكلمات عن تذكار مناقبه التى افَضْتُ فى تذكار القليل منها فى اطاردوره الكبيرومبادرته وسعيه الحثيث الى قيام الصرح التربوى العظيم فى “حنتوب” فضلا عما ظل يقوم بانشائه على نفقته الخاصة من المدارس..الاولية والوسطى ومن دور العبادة فى ارجاء ودمدنى فضلا عن تقدمه الصفوف فى كل اعمال الخيرفى المدينة الفيحاء.. و لا بد من تذكار العزيز الراحل العم لطفى شاكر.
الصامت المتحرك دواما وقد تخطى الخمسين او تزيد من سنوات عمره التى فاضت بالعطاء والبذل لم يكن يرى جالسا..فى اى ساعة من ساعات النهار.. كان من يتولى انزال قرارات مجلس الامناء(لجنة المدرية) الى ارض الواقع فضلاعن تدوين محاضر جلسات اللجنة من بعد دعوة اعضائها للاجتماعات و حفظ كافة الرسائل والمكاتبات والوثائق ومتابعة الاعمال المحاسبية مع القيام بما يلزم شراءه من مستلزمات الدراسة التى كان يشرف على تسليمها للطلاب فى بداية كل سنة دون مقابل فضلا عن متابعة تنفيذ القرارت المتعلقة بتخفيض الرسوم المدرسية او ازاحتها عن كاهل الكثيرين من الاباء وولاة الامور. وغيرها من اعمال السكرتيرين التنفيذيين فى تلك الايام .. شيخ لطفى كان على الدوام هوالخارج عن نفسه ووهبها للآخرين..كان يلفت انظارنا بخطواته المتسارعه فى جلبابه الابيض وعمامته الصغيرة على راسه الابيض الذى لم نكن ندرى ان كان قد اعتراه شيب او كان اللون البيض طبيعة لشعره الناعم . شيخ لطفى كان والدا لأحد رفاق دربنا طوال سنى الدراسة فى المرحلتين الاولية والمتوسطة..اسحق.. الذى عرفناه نموذجا لوالده ..عليهما وعلى اعضاء مجلس امناء المؤسسة التربوية الرحمة وعلى كل من كانت له صلة بتعليم ورعاية وارشاد كل من سعدوا بالجلوس الى حلقات دروس معلمينا الاخياروافر المغفرة فى اعلى عليين بين الشهداء والصديقين.
وجاء اليوم الموعود لبداية الدراسة..الذى سبقته اكثرمن عشرة ايام ظل المعلمون والعاملون تحت اشراف مديرىْ القسمين الشرقى الغربى بمساعدة نفرمن طلاب السنة الرابعة من القاطنين على مقربة من المدرسه وحباهم الله بسطة فى الاجسام..يواصلون دابهم فى حراك لأكمال العدة لانطلاق الدراسة من اول قرْعة للجرس فى صباح ذلك اليوم الموعود ..فقد كان كل من يعمل فى مجال التتربية والتعليم- معلما كان او اداريا فى مؤسسات التعليم العام والعالى – وِالى ما قبل اطلاق شعار اعادة صياغة الانسان السودانى ? وربما اعادة صياغة وهيكلة نمط الحياة فى السودان- يعلم علم اليقين ما كان لليوم الاول من كل عام دراسى من اهمية قصوى..لما لذلك اليوم من تأثيرعلى سيرالعملية التعليمية طوال العام فان اكتنف الانضباط والنظام تلك الساعات الاولى وغرق فى بحور الجدّية دون تلكؤ اوتاخير اواختلال فى دوران كل حلقة من حلقاته فان ذلك لا محالة يؤدى الى سير العملية التعليمية طوال السنة على ما بدأت عليه من ترتيب ونظام مما يجعل الاهداف التربوية تتحقق يوما بعد يوم..ولذا كانت ادارة المدرسة ومعلموها يحرصون كل الحرص عبر الزمان على بداية جادة للعام الدراسى ..فتكتمل كافة الاستعدادات فى كل منحى ومجال قبل ضربة البداية..فيتم وضع الجدول المدرسى العام ..ويعلم كل من يمشى على قدمين داخل المدرسة ما كان عليه ان يقوم به من واجبات ومهام..تدريسا وفى اى الفصول واشرافا اداريا تربوياعلى طلاب كل فصل (ما يعرف ب “أباء الفصول) فضلا عن المناشط الصفية واللاصفية رياضية كانت اوخدمية متمثلة فى الجمعيات المدرسية الى غيرذلك مما يكون اسنادا استراتيجيا لمسيرة العملية التربويه..ويتاهب عم لطفى مع من تطوع لتقديم يد العون مشاركا له فى عملية تسليم كل طالب احتياجاته من كتب وكراسات كل مادة واى ادوات اخرى من اقلام الرصاص وادوات الكتابة الاخرى وفق جدول زمنى لا يحيد عنه..ولم يبق الا ان تحين السابعة والنصف من صباح ذلك اليوم السبت فى بداية الاسبوع الثانى من شهر ينايرمن عام 1945 لتنطلق المسيرة بأسم الله مجراها ومرساها فى قدر من الاندغام وفير .
وما ان بدات شمس ذلك اليوم المحدد ترتفع فى الافق ألا وبدأت جحافل الطلاب تزحف من كل فج عميق الى الباب الجنوبى للصرح العظيم. جئنا بسلامتنا..قدامى و(برالمة) مستجدين كما صاريطلق علي الملتحقين بمؤسسات التعليم لآول مرّة فى لواحق الازمان .. فى زينا المدرسى الموحد فى المرحلة المتوسطة..جلابب بيضاء (بياقلت او بدونها) وعِمم بيضاء على رؤوسنا يلتف بعضها بتنسيق واناقة على هيئة ما كان يُعرف بالمسمار”القلووظ” الشبيه ب”المخروط” من الاشكال الهندسية اومرسلة لفائفها الدائرية فى غير انتظام تعتلى او تغطى جباه بعض الطلاب. كان سعى الاغلبية من الطلاب الى الدرس والتحصيل سيرا على الاقدام ..لا دراجات ولا حافلات ولآ”ركشات” اوسيارات خاصة .. الآ من “بص” حكومى يحمل نفرا من الرفاق هم ابناء العاملين فى ادارة مشروع الجزيرة العملاق القاطنين مع ذويهم فى مدينة “بركات” التى تبعد عن المدرسة حوالى الخمسة من الاميال وقد تكفلت ادارة المشروع بامر ترحيلهم من والى مدارس ودمدنى صباحا وعندالظهيرة فى نهاية الدوام الدراسى,
وضرب عم “برعى طه” الجرس اليدوى داعيا جميع الطلاب الى فِناء المدرسة ليصطفوا امام حجرات دراستهم فى قسميها شرقا وغربا..وبعد لحظات برزالى وسط ذلك التجمع الطلابى معلم الاجيال..الذى سعدنا برؤيته وسماع صوته اول مرّة وهو ينادى على اسمائنا قبل اسابيع قلائل داعيا كل واحد من الطلاب الناحجين فى امتحان الالتحاق بالتعليم الاوسط..كل على حده فى معية والده او ولى امره لمقابلة اعضاء لجنة القبول. هو الاستاذ الجليل يوسف محمد عبد الله الكارب..ضابط المدرسه بشقيها الشرقى والغربى ..رحمة الله عليه فى اعلى عليين.. كما بدا يتوافد الى مكان الطابورنفر آخرمن المعلمين يتقدمهم من كان قد بدا لنا من على البعد اكبرمنهم سنّا..اكيد لم نكن قد رايناه من قبل بين معلمى المدرسة الوسطى التى كنا قد الِفناها مكانا ووقعت اعيننا على الكثيرين من معلميهاوهم يشاركون طلابهم بعض مناشطهم الرياضية كل صباح.. توقف اولئك المعلمون عن المسيرقريبين على بعد ..بعيدين على قرب من الطابور..بينما واصل ذلك الوافد الجديد..االفاتح لون بشرته ويرتدى قميصا افرنجيا ناصع البياض (على الدبلان يزيد) باكمام قصاروبنطالا اسود اللون ويتلألأ شعرراسه مع اشعة شمس ذلك الصباح الاغر..كانت انظارنا تتابعه وهو يتقدم فى خطوات ثابتة متباعده فى شىء من الخيلاء والاعتزاز بالنفس..وكان همس اصوات البعض منّا يعلو وينخفض فى تساؤل عمّن يكون الرجل ..وكلما تقدمت خطواته كنا نتبين المزيد من قسمات وجهه الصارمة مثلما يزداد يقيننا انه اكبرسنّأ من زملائه المعلمين. وظل يواصل الرجل سيره متجها نحو طلاب السنة الرابعة “شرق”..وتوقف قريبا منهم يجول بناظريه فى ارجاء ساحة الطابور مما جعل اصوات الطلاب تخفت رويدا الى ان ساد السكون ارجاء الساحة الآ من صوت اجش جاء من جهة اصطفاف طلاب سنة رابعه فى توقيت غيرمناسب مسأئلا اقرب الواقفين اليه؟؟ “المدرِس الجديد الماشى علينا دا منو؟ ابو شرف الليله وين ما ظهر فى الطابور؟”..سؤال لم يكن صاحبه يعلم ان اذن الاستاذ يوسف قد التقطته فى خضم ذلك الصمت الذى ساد المكان والذى قطعه صوت الاستاذ يوسف مزمجرا ومنتهرا الواقفين بعبارة لم نعرف لها نحن البرالمة كنها “يا عِكْرِمَه” !.. فتسارعت خطوات الاستاذ الوافد الجديد متزامنة مع خطوات الاستاذ يوسف نحو مصدر الصوت.. وسرعان ما تبين لنا ان من تساءل عن الاستاذ الجديد كان واحدا من طلآب السنة الرابعه الذى كان صوته الاجش يكشف عن مكان وجوده مهما حاول اخفاء نفسه..ولكن هل كان لعكرمة ان يتوارى او يحتجب ! فقد عُرف عنه انطلاق لسانه فى عفوية اهله وطيب نفْس قومه الحلفاويين الغر الميامين..تبين لنا ان صاحب الصوت الذى اثارحنق الاستاذ يوسف وجعله ينتفض مزمجرا قبل لحظات هوذلك “العكرمه” الذى رايناه يتقدم خارجا من بين رفاقه نحو الاستاذين حالما ادرك انه وقع فى شراعماله معلنا اسفه مستعطفا ويقدم كلمات اعتذاره فى صوت ظلت حشرجة نبراته تزداد ارتفاعا تنبىء عن ارتعاده رهبة من جلال الموقف ..ورغم ذلك فقد ظل الصمت المطبق سيد الموقف.. وهنا اتضحت الحقيقة..حقيقة من كان ذلك الرجل الصارم القسمات .. القادم الجديد فى صفوف قدامى معلمى الصرح الكبير..حينما بدأ الرجل يتحدث فى صوت جهورى موجها حديثه الى كل الواقفين دون حراك “انتباه” منذرا ومحذرا مغبة اى اخلال بقواعدالانضباط اوعدم الألتزام بالنظم واللوائح المدرسيه ومهددا بالويل والثبور وعظائم الاموراذا تكررمثل ذلك السلوك! وعلى كل فرد فى تلك المؤسسة ان يعمل حسابو ويفتّح عينو زى الريال ابوعشرين ..ولكنه سرعان ما انهى عبارات التهديد والوعيد وقفل الرجل عائدا الى مكتبه عندما جاءه عم برعى “شيخ العاملين” يبلغه بامربدا انه كان لا بد له من الاسراع اليه! ولكنه عاد ثانية قبل ان يتم انصرافنا الى حجرات الدراسه. ويا”ليته لم يعد” فقد شهد للمرة الثانية فى ذلك الصباح اسوأ مما حذّ رمنه وانذر! شهد بعينى راسه تدافعنا نحن “بتاعين سنه اولى شرق” الى الفصل فى غيرما كان يُتَوقع منا اتباعه والانصياع له من محافظة على النظام والانصراف الى الفصل فى هدوء كان المفروض ان نتبعه دون ان نسمع ذلك التهديد بالويل والثبوروعظائم الامور..طبعا أُمِرنا بالعودة الى حيث كان وقوفنا فى الطابور(بينما سارت جموع طلاب الفصول الاخرى الى حجرات الدراسة)..وقفنا والخوف ياخذ منا كل ماخذ وتكاد قلوبنا تبلغ الحناجرمن هول مشهد الرجل الذى كان يتميزغيظا والشرر يتطايرمن عينيه وظل واقفا دون ان ينبس ببنت شفه يحدق فى وجوهنا ودون ان ينطق بكلمة امرنا بالانصراف الى داخل الفصل. ظننا ان الامرانتهى الى ذلك الحد وان الاستاذ سيعود من حيث اتى الى مكتبه.. ولكن خاب ظننا حالما رايناه يتبعنا الى داخل حجرة الدراسة! ومن جديد بدأ سيل التهديد والوعيد ينهمر من لسانه ونحن وقوف بين يديه وكادت قلوبنا تتوقف حينما بعث واحدا ممن كانوا واقفين على مقربة من مدخل الفصل لأستدعاء احد العاملين وحينها تاكّد لنا اننا لا محالة ذايقو طعم افرع اشجار “النيم” التى تم غرس عدد منها على حافتى الممر المؤدى من مدخل المدرسة الرئيسى الى البهو الفاصل بين مكتبى الناظر والمكتب الرئيسى للمعلمين..ولكن حمدنا الله كثيرا عندما تأخر”الرسول” والمرسل اليه .. قديما كان يقال” اذا تأخر الرسول فظُنّ خيرا! وبلا مقدمات تغيّر الموقف جملة وتفصيلا بدخول معلم قصيرالقامة فاتح اللون والى اللون الابيض كان الاقرب.. وحالما تبادل الاستاذان التحيات فى قدر من الانفراج الاساريرى بينهما مصافحين بعضهما حين بادرمن تبعنا الى الفصل قائلا” اهلا يافائز افندى.. اولادك ديل يبدو انهم ملاعين ..عاوزين العين الحمرا.. خلّى بالك منهم كويّس” .. رد الاستاذ فائز مرحِّبا بالرجل الذى كان واضحا انه يناهز سن والده “اهلا يا حضرة الناظر.. ما تشيل هم .. ان شاء الله موش حينسمع لهم صوت”.. حالماغادرمن كنا نتوق الى معرفة هويته وتساءل عنه طالب السنة الرابعه (من كان اسمه عكرمه) احسسنا ساعتها ان حقبة جديدة فى مسارتعلقنا بذلك الصرح العظيم قد بدأت ..فقد اوضح لنا الاستاذ فائز اسم الناظر..ابوبكرافندى صالح ..وهوالقادم من مدرسة امدرمان الاميرية ليحل مكان الاستاذ مصطفى ابوشرف فقط خلال الفترة الدراسية الاولى من ذلك العام لتنتهى فى منتصف شهر يونيو.. وتنفس البعض منا الصعداء وهمس احدنا ” الحمد لله! شهرستّه قريب!
وقبل لن اختم هذه الحلقه لا بد ان اذكرانه فى غمار دوران الزمان ان اسعد بلقاء قى غير موعد بذلك “العكرمه” بعد خمس عشرة من السنين لا اعتقد ان كان للاخ عكرمه سبب حتى لتذكاراسمى خلالها..فقد كنت فى ذلك العام 1945 (برلوما مستجدا بينما كان عكرمه فى فى عامه الاخيريتأهب للنتقال الى المرحلة الثانويه..) ناهيك عن التعرف على شخصى.. كان لقاؤنا للمرّة الثانية خارج مدينة ودمدنى وبعيدلا عن مرستها الاهلية الوسطى عندما انتقلت فى اكتوبر1960 لأعمل فى مدرسة عطبره الثانويه .. صحبت اثنين من زملائى المدرسين فى بداية اول امسية اقضيها فى مدينة الحديد والنار الى “دار المعلمين”.. وتشاء الاقدار ان تلتقط اذنى حالما دلفنا الى داخل المنتدى.. نبرات ذلك الصوت الاجش الذى جذب مسامع الاستاذ يوسف الكارب فى صباح ذلك اليوم من شهر يناير عام 1945. عندما كان صاحبه يصرخ مؤنبا زميل له على تربيزة “لعبة الدومينو”! وفى التو والحين سألت احد رفيقى عمن يكون صاحب ذلك الصوت ..لمجرد التأكد انه هو فعلا صوت لمن استقرفى ذاكرتى انه هو”عكرمه” ..وما هى الآ لحظات قلائل حينما انتقل الاستاذعكرمه من موقعه ذاك الى حيث كنا قد جلسنا نستمع الى نشرة اخبار الثامنة مساء من راديوامدرمان..حينما دنا من موقعنا فاجأته مناديا له مقلّدا نبرات صوت الاستاذ يوسف التى ناداه بها فى سوابق السنوات..(يا عكرمه!). حالما وقعت عبارتى على مسمعه توقف الى يحدّق فى وجهى.. تقدم نحوى متسائلا ان كان لنا سابق معرفة او لقاء من قبل واين.. “يا اخى انا والله متاكد شفتك قبل كدا” .. كان ردى عن سؤاله بسؤال له ان كان يذكراى مناداة له بأسمه من قبل بتلك النبرات التى ناديته بها قبل لحظات… بدا لى انه بدأ يسترجع ذكريات الماضى من الازمان..ولكن سرعان ما اندفع عكرمه نحوى معانقا حالما انهيت سلامى ومصافحتى مع الاستاذ احمد هاشم.. (عليه الرحمة) نائب ناظرالمدرسة الثانويه الى وصلت اليها عصارى ذلك اليوم.. فقد اماط الاستاذ احمد اللثام عن هويتى عندما نادانى با سم شخصى الضعيف ونحن نتبادل التحيات.. مما سهّل الامرعلى عكرمه للعودة الى سوابق الازمان فى مدرسة مدنى الاهليه .. وبعد تبادل التحيات والذى منه تواصل الحديث استرجاعا لآيام كانت لكل منا فى ذلك الصرح العظيم استعدنا تذكار سيرة الكثيرين من معلمينا الاخيار مثلما تحدثنا طويلا عن ذلك الصباح الاغرحينما جاء ت صرخة الاستاذ ” يا عكرمه” داوية فى فناء المدرسةالاهليه.. رحم الله عكرمه محمد فرحان الذى كان فى ذلك العام 1960 يعمل معلّما فى احدى مدارس عطبره الوسطى.. موش فعلا “كانت لنا ايام” ليس فى مدرسة ودمدنى الاهلية فحسب..بل هى ايام كان لها ايقاع فى مختلف مجالات التربية والتعليم.
والى لقاء باذن الله فى الحلقة الرابعه مع فائز افندى ورفاقه المعلمين الاخيار.
[email][email protected][/email]
اعتذار.. ارجو ان انوّه للسادة من يتابعون ذكرياتى انه قد تبين لى حدوث اختلال فى تسلسل بعض وقائع هذه الحلقة الثالثة باختفاء بعض اجزاء من فقراتها نتيجة لضغط على بعض مفايح الحروف العربية عن طريق الخطأ..ارجو المعذرة ..وسيتم-ان شاء الله – اجراء التعديلات اللازمه لتعود اليكم الحلقة فى صورتها المكتمله..شاكرا لمن يتابعون و لمن يتكرمون بابداء الراى والتعليق.. بامل ان يتواصل احساسهم بقدر ما يجدونه من امتاع ومؤانسه بما اختزنته الذاكرة عن بعض احداث ذلك الماضى(الذى كان لنا وكانت منه تنساب المُنىَ نحو سودان جديد) عشنا ايامه التى كانت بكل المقاييس وافرة الاشراق بين معلمين افذاذ ورفاق درب كرام فى مختلف مواقع تعليمنا من سواحر المكان فى الطيّب والزاهى من الازمان.
اعتذار.. ارجو ان انوّه للسادة من يتابعون ذكرياتى انه قد تبين لى حدوث اختلال فى تسلسل بعض وقائع هذه الحلقة الثالثة باختفاء بعض اجزاء من فقراتها نتيجة لضغط على بعض مفايح الحروف العربية عن طريق الخطأ..ارجو المعذرة ..وسيتم-ان شاء الله – اجراء التعديلات اللازمه لتعود اليكم الحلقة فى صورتها المكتمله..شاكرا لمن يتابعون و لمن يتكرمون بابداء الراى والتعليق.. بامل ان يتواصل احساسهم بقدر ما يجدونه من امتاع ومؤانسه بما اختزنته الذاكرة عن بعض احداث ذلك الماضى(الذى كان لنا وكانت منه تنساب المُنىَ نحو سودان جديد) عشنا ايامه التى كانت بكل المقاييس وافرة الاشراق بين معلمين افذاذ ورفاق درب كرام فى مختلف مواقع تعليمنا من سواحر المكان فى الطيّب والزاهى من الازمان.