التسوية والتخوين..!

في السودان تتبدل المواقف بشكل مُحيِّر ومربك. فقبل اشهر لحقت النعوت القاسية بظهر قادة أحزاب المعارضة الذين كانوا ينادون بضرورة مهر التسوية مع الحكومة، حقناً للدماء وحفاظاً على ما تبقى من الوطن. وبناء على ذلك رأينا التهم تُوزّع على أنصار هذا المقترح، فمرة هم عملاء للنظام، وأخرى هم “أمنجية”، وثالثة هم باحثون عن الكراسي الوثيرة في السلطة. وبين هذا وذاك كان الوطن يسقط، ونساء دارفور تُرمَّل وأطفال المنطقتين يموتون بسبب انعدام التطعيم والمأكل والمشرب..!

الآن، سُحبت تلك الاتهامات التي تم توزيعها في أزمنة سابقة على مناصري التسوية. وتم حذف النعوت القاسية التي قيلت في حقهم، لأن الفئة التي كانت توزع التهم، وتظن أنها على حقٍ دائم، تبدّلت مواقفها وتغيّرت تغييراً محيراً ومربكاً، بحيث أصبحت هي رمانة التسوية ومسمار نص الاندغام في الحكومة..!

وهنا يبرز سؤال أخلاقي عن المتغيرات التي طرأت على المشهد السياسي بحيث يتخلى قادة المعارضة عن عنادهم، ويهرولون ناحية التسوية..! وسيجيب الصادق المهدي بأن بيضة النضال مصانة وأن التسوية تهدف إلى تحقيق المصلحة الوطنية، وسيمضي في سبيل طمأنة الجماهير، إلى أكثر من ذلك ويقول إن “الغُلاة أوهموا السُهاة أن الاتجاه ناحية التسوية تهاون في المصلحة الوطنية”..!

ربما يكون من حق الصادق أن يقول ذلك فهو عرَّاب الحل السلمي، حتى في عز “الكوماج” و”الكتمة”..! ولكن ماذا سيقول من ظلوا يرفضون مجرد الحديث عن تسوية أو تفاهم مع الحكومة. وماذا سيكون موقفهم، وقد فصّلوا التهم بالعمالة للحزب الحاكم، ضد من كانوا ينادون بالركون إلى خيار الحوار، إن لم يكن من أجل السودان قاطبة، فمن أجل المتضررين من نيران الحرب في الأصقاع البعيدة.

والآن، وبعد كل ذلك، تأتي أغلب التشكيلات المسلحة (جبريل ــ مناوي ــ الحلو ــ عقار) لتتموْضع في طوابير الباحثين عن دورهم في الحوار والتفاوض من خلال منابر أديس أبابا وغيرها من العواصم.. صحيح أن ملامح هذا الحوار قد تبدو أفضل حالاً إذا ما قورنت بملامح حوار الوثبة، لكنه يظل حواراً سيق له الفرقاء السودانيون بجبروت الأسرة الإقليمية والدولية، وليس بقناعة راسخة. وهذا مؤشر سيء، ذلك أن التسوية الجبرية ستنهار في أقرب أزمة كما حدث في جنوب السودان.

ولذلك كنا نتمنى الاستجابة إلى الأصوات التي نادت بالتسوية في أزمنة سابقة وتحديداً في ظل ندية يبدو أنها تحولت لغلبة لصالح الحزب الحاكم بعدما استمال الأسرة الدولية بتعاونه الكبير في ملفات الإرهاب والحرب على الجريمة العابرة وتهريب البشر.

ظني، أن المؤتمر الوطني عضّ على ما بين فكيه من ملفات وكروت ضغط، ورفض أن يفتح فمه حتى لا تسقط تلك الكروت من بين نواجذه، بينما طفقت مكونات المعارضة “تصقع الجرة” وتلوك الكلام، وتزايد بأنها قادرة على اسقاط النظام. ولذلك ظلت أسيرة لتوصيف الصادق المهدي حينما قال إن المعارضة مثل الـ”حشاش بي دقنو”.

قناعتي أن التسوية تأخرت، وأن المعارضة ــ بعنادها ــ قد خسرت. ولكنها قطعا سوف تخسر أكثر؛ إذا شاركت في مهر التسوية الجبرية المتناسلة من ضغوط الغرب؛ ببساطة لأن مثل هذه التسوية تبقي على جذور الأزمة.
الصيحة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..