المحارب.. رواية – 18

المحارب..
الحلقة الثانية والعشرون..
قلنا ان اشرفا جلس منكمشا على نفسه، وهو يحس بعقدة الذنب بقبوله المجئ مع صاحبيه الذان بدآ يغيبان عن الوجود بعد ان كرعا بمتعة كاسيهما الذان قدمهما لهما عبد الجبار ود المحينة، شعر بصغار وقد خجل من نفسه ان يكون جالسا بين هؤلاء التعساء الهاربون من الواقع الذين يبحثون عن سعادة فى زجاجة خمر، ندت عنه تنهيدة وهو يتفرس فى هذه الوجوه المظلمة التى خلت قسماتها من اى تعبير حتى اضحت اشد جمودا من وجوه التماثيل والدمى، اصيب بالغثيان وهو يملأ رئتيه من الهواء الملوث بدخان السجائر الذى اختلط برائحة الخمر والعرق، احس بالملل فلكز الهميم الذى كان يجلس بجانبه وهو يجيل نظره فى وجوه الحاضرين، نظر اليه الهميم وساله فى ضيق، وكان لا يزال به بقية من عقل؛ ماذا بك يا اشرف؟.. اجاب اشرف باستياء وهو ينظر الى ساعة معصمه؛ الساعة الآن تجاوزت العاشرة، قال ذلك وهب واقفا وهو يقول فى ضجر سأذهب الآن، فى هذا الاثناء وقبل ان ينبس الهميم ببنت شفة، دخلت كلتوم الدلالية تحمل فى يديها كمية من الزجاج المملوء بعرق البلح، تتبعها ثلاثة فتيات، حدس اشرف انهن؛ النوارة والزينة والدهباية، او قنابل الانداية كما يحلو للرواد ان ينادونهن، او ……. !! كلتوم الدلالية كما يحلو للبعض ممن لا يجدون حرجا فى اطلاق فاحش القول.. كان يعلم من خلال حديث صديقيه عنهن؛ انهن يقمن بخدمة الرواد والوقوف على راحتهم، وتنفيذ (كل ) رغباتهم.. ولجن خلف مديرتهن وكن يحملن سفر الطعام الذى يحرص الندامى ان يكون من صنع يدى كلتوم الدلالية.
وكلتوم الدلالية امرأة تخطت الستين بسبعة اعوام، تعلو وجهها الذى ذبلت نضارته مسحة حزن دفين، والناظر الى ذلك الوجه الاسمرالشاحب المنهك الذى برزت عظام فكيه يدرك ان بتقاطيعه الدقيقة ملامح لآثار جمال زان فى يوم من الايام ذلك الوجه البائس ثم ما لبث ان اندثر، لا يعلم احد من اى قبيلة تنحدر اصولها، قيل انها من الرحل الذين يعبرون النيل الازرق من جهة الشمال فى رحلة الشتاء والصيف عند حلول مواسم الزراعة والحصاد، استقر بها المقام قبل عشرات السنين هى وزوجها الذى توفى غرقا فى حادث انقلاب مركب لم ينجو منه احد، ترك لها زوجها ابنة وحيدة تزوجت وانتقلت الى بورتسودان حيث يعمل زوجها حمالا بالميناء، اشتغلت كلتوم فى تجارة الاوانى المنزلية- ولهذا اطلق عليها اهالى المنطقة لقب الدلالية- كانت تجوب القرى والكنابى على ظهر حمارها، او على ظهر البص المشهور ببص (الضهارى )* الذى يبدأ رحلته من قرية السريحة عبر الشارع الترابى الذى يشق المساحات المروية الخضراء مرورا بقرى ازرق والنابتى وود لميض وعديد البشاقرة وود القلاب والشوبلى حتى ينتهى عند محطته الاخيرة بالتكينة، إذ تربط هذه الاخيرة تلك القرى بالطريق السريع الذى يصل مدنى بالخرطوم، كما تربطها ايضا بالقرى الواقعة على الضفة الاخرى للنيل الازرق، كانت كلتوم تبيع بضاعتها لنساء تلك المنطقة بالاقساط، راجت تجارتها وازدهرت فى بادئ الامر ولكنها لم تلبث ان تراجعت خلال عامين اثنين فقط، وذلك للارتفاع المستمر لاسعار الاوانى، ومماطلة زبوناتها فى سداد ما عليهن من ديون، بالاضافة لافتتاح احد التجار محلا لبيع الاوانى المنزلية فى المنطقة، الامر الذى ادى لكساد تجارتها، فتركتها ولجأت للكسب من مهنة رغم سهولتها وضمان ربحيتها، الا انها صعبة على النفس تقبلها لا سيما فى مجتمع ينظر الى ذوى الكسب المشبوه والحرام على انهم مجرمون يجب بترهم، لقد وجدت نفسها مرغمة على فعل سيجلب لها سخط الله والناس اجمعين، ولكن ليس هنالك بد من الانخراط فى ما فكرت فى فعله، فعمرها لم يعد يسمح لها بالعمل اجيرة لدى المزارعين فى حواشتهم، ولا تستطيع ان تعمل خادمة فى البيوت، فمن ذا الذى يرغب فى خدمات عجوز فى سنها؟ لذا استقر تفكيرها على ان تعمل فى صنع وبيع الخمور وليكن ما يكون، وشرعت فى ذلك فورا لا سيما وان لديها معرفة لا بأس بها عن كيفية صنعها، فقد تعلمته من احدى جاراتها من ساكنات الكمبو.
تقع انداية كلتوم الدلالية فى طرف ذلك الكمبو الشهير الكائن وسط احدى النمر من اراضى المشروع، والذى اقيمت بيوته -وهى عبارة عن قطاطى متناثرة- على مساحة لا تتعدى الثلاثون فدانا، خصصت هذه المساحة من الارض للكمبو لعدم صلاحيتها للزراعة، وذلك لارتفاع نسبة الملوحة فى قشرتها السّبِخةُ، وارتفاعها قليلا عن المساحات المسطحة المحيطة بها، إذ يتعذر وصول المياه اليها.. بعض قاطنيه وفدوا من مناطق البلاد المختلفة مع بدايات المشروع، والبعض الآخر جاء من دول غرب افريقيا كاياد عاملة فاستقر بهم المقام على هذه الارض البورالتى لا تبعد سوى ثلاثة كيلو مترات الى الجنوب الغربى من القرية.
امسك الهميم بيد اشرف والح عليه فى الجلوس لتناول العشاء وبعدها سيكون لكل حادث حديث، صرخ اشرف فى وجهه، وهو يردد فى مقت؛ لن انتظر ولا لدقيقة واحدة.
انتبه الحاضرون وصعدوا بابصارهم نحو اشرف الذى عقد ما بين حاجبيه وهو ينظر اليهم بازدراء، كانو يغمغمون بعبارات غير مترابطة ولا تحمل اى معنى، ويتفرسون فى وجهه باعين كانت غشاوة السكر قد حجبت بريقها تماما.
وضع عبد الجبار كاسه على الارض الرملية، وهو الوحيد من بين كل هؤلاء السكارى لم تفقد عيناه الثاقبتان بريقهما، كما لم تتغير سحنته ايضا، ولم يغب عقله عن الوجود لحظة واحدة، فقد ظل كما هو هادئ الاعصاب يشرب فى صمت كانه يحتسى كوبا من الليمون، وربما كان اكثر وعيا من اشرف نفسه، كان تماما كما كان يحكى عنه صديقاه، لم تؤثر الخمر فى عقله الصاحى قيد سُكرة -ان جاز التعبير- رغم انه لم يتوقف عن الشرب منذ مجيئهم.. وضع كاسه الملأى بعرق البلح وهب واقفا، نظر الى اشرف وهو يبتسم بمودة فوضع يديه على كتفى اشرف وقال بنبرة رقيقة، ستتعشى معنا يا صاح، وزاد بحزم وعيناه الثاقبتان تكادان تخترقان عينى اشرف، وابتسامته الودودة لما تزل ترتسم على شفتيه؛ ان كنت تعتقد ان عشاءنا هذا مصدره حراما فانت واهم، مصطفى الثعلب هو من تعهد بدفع فاتورة العشاء، قال ذلك وهو يضغط بقوة على كتفى اشرف حتى اجبره على الجلوس.
جلس اشرف مرغما، فقد كره ان يحرج عبد الجبار بعد ان ابدى له تقديرا واحتراما ظهرا فى الطريقة التى خاطبه بها، وُضع الطعام، وانقسمت الجماعة الى فسطاطين، تحلق كل فسطاط حول مائدة رُصّت اطباقها على الارض الرملية، كانوا نحو خمسة عشرة شخصا، وجد اشرف نفسه بمعية مجموعة عبد الجبار التى ضمت بالاضافة الى صديقيه الهميم ومتوكلوف كل من عباس ومحمود ومصطفى، واثنان لم نأت على ذكرهما من قبل، هما عبد الرحمن النقلتى، وخلف الله ود النعمة، وكلاهما من اساسيى الانداية.
كانت كلتوم وفتياتها الثلاث يقمن بخدمة السكارى بوقوفهن على راحتهم وتنفيذ طلباتهم وتوفيرها، من زيادة للطعام وجلب المياه، وقد يتبجح احدهم فيطلب من احداهن ان تجلس بجانبه وتطعمه بيدها، لقد فعلها خلف الله ود النعمة مع الزينة، وفعلها متوكلوف الفاسق مع الدهباية، وفعلها ايضا الثعلب مع النُّوارة التى لم ير اشرف فى حياته فتاة اكثر جرأة وخلاعة منها، فقد رقصت شبه عارية فى الحفل الذى اقامه الندامى على شرف متوكلوف بمناسبة تخرجه بعد ان فرغوا من الطعام، كان المغنى الذى احيا الحفل هو محمود ود الزبير، فقد غنى بصوته المشروخ الذى يشبه نقيق الضفادع فاطرب الندامى الذين تفاعلوا مع الحانه النشاز كانهم يستمعون الى احد اساطين الغناء فى البلاد، صاحب محمود ود الزبير فى العزف على الايقاع متوكلوف الذى كان يضرب على جركان فرغ لتوه من (المريسة )، وقد برع متوكلوف كانه عازف طبل محترف.. وبينما القوم فى سكرتهم يعمهون غمز عبد الجبار للنوارة بعينيه وهو يشير بسبابته الى اشرف وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ماكرة.. كانت تراقص الزينة واحدة من الرقصات الخليعة ذات الايحاءات الجنسية الفاضحة حين طلب منها عبد الجبار ذلك، فدنت من اشرف حتى لم يبق بينها وبينه ذراع وهى تتمايل كغصن تلاعبت به الريح، ملا عطرها الصارخ انفه حتى احس بالشهوة تدب فى نفسه العطشى، استغفر الله فى نفسه ووسطها الذى يهتز امام عينيه يكاد يلامس انفه، كان الوحيد بين القوم الذى جلس على مقعد، فقد جلس الآخرون القرفصاء وهم يحملقون فى رغبة محمومة الى جسد النوارة وتقاطيعه المثيرة، ونور مصباح الكيروسين الخافت الذى وضع على منضدة عالية فى احد اركان القطية الواسعة يقع على وجهها الذى تصرخ ملامحه بايات الفسق والفجور، تململ اشرف فى جلسته وقد غلبت عليه شهوته، ازدرد ريقه واشاح ببصره عنها خشية الوقوع فى فتنتها التى بدأت تنسرب فى مكامنه الذكورية انسراب التيار الكهربائى فى سلك النحاس، دنت النوارة اكثر فاكثر وهى تتطلع الى وجهه الذى لمست فيه بحسها الانثوى ثورة الشبق التى فضحتها تقاطيعه الوسيمة، احس بانه ان لم يحسم امر وجوده بين هؤلاء اللاهين سيرتكب اثما، لذا حسم امره وغادر بهدوء دون ان يحس به احد سوى عبد الجبار الذى جاء الى النوارة وطلب منها فى هدوء التوقف عن الرقص واللحاق به، ختم طلبه بان همس فى اذنها قائلا؛ لا تتركيه يفلت، لقد احسست بان دواخله تمور رغبة كانت تنطق بها عيناه.
وجد طلب عبد الجبار هوى فى نفسها إذ يبدو ان اشرفا شغفها حبا، فانطلقت خلفه حاثة خطاها فوجدته قد بلغ باب الحوش فصاحت فيه بوقاحة؛ انتظر رويدا يا هذا، اريدك فى امر ايها الوسيم..
التفت وراءه وفوجئ بشبحها يسير نحوه بخطوات راقصة، فتوقف بجانب الباب خارج الحوش وقد تسارعت دقات قلبه خشية ان تغويه بغنجها وخلاعتها وفتنتها التى ربما ساقته لارتكاب معصية طالما ظل ينأى بنفسه عن الوقوع فى براثنها، دنت منه وهى تقول فى دلال فاضح ؛ لم الاستعجال؟ فالوقت لا زال مبكرا.
تنحنح قليلا قبل ان يرد بصوت اجش وهو يحاول مراوقتها؛ لقد تأخرت، ولم اعتد على السهر الى هذه الساعة، سكت قليلا قبل ان يستطرد قائلا بنبرة مضطربة ظهر فيها ان هروبه انما كان خوفا من فتنتها؛ تصبحين على خير، قالها بارتباك واضح وهم بان يوليها ظهره، الا انها امسكت بكفه قبل ان يخطو الى الامام وهى ترجوه ان يبقى حتى نهاية الحفل.
احس برغبة جامحة فى احتضانها، وكفها يضغط على كفه.. يا لهول المصيبة، ما هذا الانقلاب الذى طرأ على قناعاته؟ تساءل بينه وبين نفسه.. لقد بدا وكانه سيذعن لرغبته، فقال مماحكا وكفه الذى تعرق بفعل الصراع المحتدم فى نفسه لا زال بيدها؛ ومتى سينتهى حفلكم هذا الذى يشبه جلسة من جلسات الظأر؟، اضاف فى تافف؛ الجو بالداخل اصابنى بالاختناق، صخب، وعقول غاب عنها الوعى، وروائح كريهة من دخان وخمر.. لا لا دعينى اذهب..
قالت بفرح كانها كانت تنتظر منه مثل هذا الكلام وهى تشير الى بيوت صغيرة من القطاطى تناثرت بصورة عشوائية داخل السور البائس المبنى من توليفة من القنا وسيقان القطن والقش؛ اذاً انتظر فى اى واحدة من تلك القطاطى حتى ينفض سامر السكارى.
كان صراخ القوم على وقع الحان محمود ود الزبير النشاز، وايقاع متوكلوف الصاخب الذى يماثل اصوات طلمبات المياه يصل الى آذانهما بصورة ضوضائية جرحت هدوء الليل الذى نامت على وسادة سكونه بيوت الكمبو ذات الاسقف المدببة التى تتراءى للناظر اليها مع عتمة الليل المظلم كانها مدافع عملاقة وجهت نحو السماء، قال اشرف وقد حرر كفه من قبضتها وهو يتبعها الى احدى القطاطى؛ ارجو ان تستعجلى صديقىَّ فى انهاء ليلتهما.
كانت تسير امامه بخطوات رشيقة راقصة الى ان بلغت باب القطية، دفعت بالباب وولجت الى الداخل امامه.. تردد قليلا قبل ان يلج هو الآخر، فقد اشارت اليه بيدها ان تفضل.. ولج الى داخل القطية وصراعه مع نفسه يزداد احتداما، لماذا لم يحسم امره ويغادر؟ ولِمَ وافق على البقاء وانساق وراءها كالاعمى، فهل سحرته هذه البغى؟ ثم ماذا لو روادته عن نفسه؟ ايستجيب لنداء شهوته التى بلغت منتهاها، ام تراه سيصمد امام فتنتها التى لا يستطيع احد مقوامتها مهما بلغ من استقامة، او برود؟..

الامين ابراهيم احمد ارباب
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..