إسرائيل (بالأرقام) … جنوب السودان (بالأوهام) !!

قبل سنوات خلت وجّهني صديق عزيز وأخ فاضل ? أنا أتحسس دائماً من مسألة ذكر الأسماء ? إلى متابعة نشرة خاصة يحيطها شيء من السرية وتصدرها سنوياً (دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية) تحت عنوان (إسرائيل بالأرقام)، وهي من السرية بحيث أن الحصول عليها بصورة فورية يتطلب جهداً وتنسيقاً خاصاً (رخصة الإطلاع)، ولكن مع ذلك فبإمكان (العبد لله) ? والحمد لله – الحصول عليها لعدم وجود ما يدعو للخوف بالضرورة.
فحوى النشرة الإسرائلية السنوية ليست معلومات وأسرار تتخوّف (الدولة العبرية) من الإفصاح عنها، بقدرما هي إحصاءات دقيقة للنشاط الإقتصادي للدولة والذي يعتبر الركيزة الأساسية للدول في مواجهة تحدياتها من حيث بقائها وزوالها، أو (فشلها) في أغلب الأحوال، فالقطاعات المختلفة للدول على شاكلة الخدمي والصناعي والتعليمي والسياحي والتقني وغيرها، لا يمكن أن تسير وفق ديناميكية الخط المرسوم لها ما لم تسند هذه الخطوات عملية توفير معلومات دقيقة وصحيحة يتم إخضاعها لدراسات علمية عالية التكنيك والواقعية.
إن عملية الإحصاء ليست أرقاماً معقدة تُسَوَّد بها التقارير الحكومية الدورية، أو تقصي لأوضاع الدولة وسير دولابها، فالإحصاء علم يبحث في البيانات الرقمية وصفاً وتحليلاً، حيث لا يكفي أن يكون الفرق بين (10) و(01) تقديم وتأخير لرقم، ولكن هذا يعني أيضاً أن هناك (9) أرقام تعني الكثير الكثير. وليس بعيداً عن هذا (الكتيب) مثار الإهتمام، دعوني أتساءل ? وأنا المكتوي من خيبات حكومة بلادي ? هل لجنوب السودان جهاز مركزي أو حتى فرعي للإحصاء؟ والسؤال مكرر بوجهٍ آخر: هل تخضع مؤسسات الدولة الوليدة إلى تقويم لأدائها العام؟ ولمن تُرفع تقارير الأداء وأين تُحفظ؟ وكيف تَعرف الحكومة حوجتها في التخطيط للإسكان وتقديم خدمات المياه والتعليم والصحة والطرق والمواصلات والسلع والطاقة والبحث العلمي والتقانة والإمداد العسكري؟
وبالإجابة عن هذه التساؤلات، فإن مثل هذه القضايا مما تتطلب استراتيجية قومية عليا للدول تهدف إلى وضع تصوّر عام للمصالح الوطنية العليا من قبل النخب، وهو أمر بعيد بُعد (الثرى من الثريا) في جنوب السودان، إذ أن الدولة وقبل دخولها في مرحلة الحرب الراهنة تفتقد إلى توافق سياسيها على أهداف يقوم عليها التخطيط الإستراتيجي القومي، وسرعان ما امتلأت المكاتب بأصحاب المهارات الإدارية المتواضعة وفاقدي التأهيل الأكاديمي ومقرّبين من الرئيس بصلة الدم ومَنْ لا شفيع لهم سوى وشوم (شلوخ) تعلو الجبين وتلتقى خلف (الجمجمة)!! فصارت اللهجة المحلية (للمهيمنين) على الحكم لغة التخاطب الشفهي في مؤسسات الدولة ومكاتبها الرسمية، وضاع أيّ أملٍ في بناء الدولة على أسس حديثة.
الدول تقوم على المؤسسات التي تتبلور في رؤاها مكوّنةً الشكل العام لها، فالأيديولوجيا وإن تعتبر الموِّجه الأساسي لسياسة الدول، ليست سوى عامل (قليل الأهمية) بالمقارنة مع التوافق والإنسجام المطلوب من كافة المؤسسات لبلوغ الغايات العليا للدولة، والدول عكس جنوب السودان لا تُدار بالإقصاء وعدم القبول بالآخر وتبادل (الثأرات) وإعلاء شأن جهةٍ على أخرى، والتناحر والتركيع، فمثل هذه الدولة يجب أن لا يكون لها وجود في هذا القرن، لأنها (خطيئة) وحمل (سِفَاح) في (عقد) الحركة الشعبية. علماً بأني أشير إلى حقائق مجرّدة ولستُ (سليط لسان أو قليل إحسان) كما يتراءى.
ويحدث الفساد في دولة جنوب السودان في خطّه العام عبر مؤسسات الدولة نفسها وبحماية الحكومة في ظل غياب الرقابة والمؤسسات العدلية المستقلة، ومن خلال إستغلالٍ مخلٍّ ومخزٍ لظروف تأسيس الدولة ثم دخولها سريعاً في أزمة حكم (دامية) بين قياداتها، فجرائم السطو على المال العام التي وصلت إلى أجهزة الإعلام والقضاء ضئيلة بالمقارنة مع الحجم الحقيقي لما تمّ من نهب وسرقة، ولولا إختلاف أصحاب المصلحة في (الغنيمة) لتمّ وأدها كغيرها من الجرائم صغيرها وكبيرها.
في العام 2012م وحده، قضت النيران على ملّفات مهمة و(خطيرة) في مكتب الأمانة العامة للحركة الشعبية بجوبا، وخرجت الحكومة لتعزو أسباب الحريق إلى (إلتماس كهربائي) في دولة تعتمد على الطاقة من (مولدات) متواضعة تعمل بالديزل!! ثم وفي ذات العام وبفترة قريبة، إلتهمت النيران جانب من مكتب النائب الأول للرئيس في ذلك الوقت الدكتور رياك مشار، ولم تُبدِ الحكومة كذلك أدنى إهتمام بالأمر، وبلا تحقيق تمّ قفل ملف القضية، ثم توالت الأحداث تباعاً كسطو موظفي مكتب الرئيس سلفا كير على أموال ضخمة تخص المكتب الرئاسي أكثر من مرة بقيادة مدير مكتب الرئيس كير (الشره للمال والمتعطش للدماء)، وولوغ قادة كبار في الجيش والخدمة المدنية في الإستيلاء على 4 بلايين دولار (الكترااابة)(*)!!. وهذا قيض من فيض ما حدث فعلاً، فالجرائم الحكومية الممنهجة التي ترتكب في دولة جنوب السودان بصورة يومية تحتاج إلى ما هو أكثر وأبعد من مقال.
إن غياب دور الإحصاء الحكومي في جنوب السودان هو أحد أسباب إستشراء ظاهرة الفساد بهذه الصورة المزعجة والمقننة، وساهمت الحكومة عن قصد في إبقاء تقاريرها طي الكتمان إما بالحرق والتمزيق أو بالتحايل وإغماض الطرف، كأنْ تنسب الضائقة الإقتصادية التي تمرّ بها الدولة في الوقت الحالي إلى حالة الحرب التي تتناوش الدولة من أطرافها وتنهشها من داخل عاصمتها جوبا.
الدولة التي يريدها سلفا كير ستزول عن الوجود، لأنها قامت على (الأوهام) والكذب والإستقصاء، وبطانته سيزّجون في السجون عاجلاً أم آجلاً، أما جنوب السودان الواعد فهو آتٍ لا محالة، كمَهْر لدماء المواطنين الأبرياء ودعوات الجوعى ودموع اللائي اغتصبنهن جنود (جالوت جنوب السودان)، وأعني الجنرال فول ملونق ذاك (الذي تمرد أو كاد) وعدالة قضية مظاليم حكومة كير القبلية العنصرية. وأكاد أراهن – لولا الإمساك عن مغبة التسرع في إطلاق الأحكام – على أن للدولة في جنوب السودان مستقبل أكثر إشراقاً، فالديمقراطيات لا تأتي إلا بعد تضحيات كبيرة، ودونكم أوربا التي مرّت بأسوأ المراحل عبر تاريخها الطويل بدءاً بعهود التيه والتخبط وإنتهاءاً بفترة ما بعد الحربين العالميتين، وكذلك دولة (رواندا) التي أصبحت الآن مثلاً يُضرب في ميدان التعايش الإجتماعي والتداول السلمي للحكم وإشاعة مبدأ الديمقراطية في مؤسساتها السيادية.
هذا أو الطوفان …

إستيفن شانج
[email][email protected][/email] ــــــــــــــــ
(*) الكترااابة: مفردة في العامية السودانية (الدارجية)، وتقال للمبالغة في الإستغراب بمد (الألف)، ويكون طول المدّ وصوته بحسب درجة الدهشة (كاتب المقال).

تعليق واحد

  1. لك التحايا استاذ إستيفن شانج علي هذا المقال الضافي الشافي و بنفس القدر اخوتكم في الشمال يعانون الأمرين من فساد الحكام ومن لف حولهم

  2. لك التحايا استاذ إستيفن شانج علي هذا المقال الضافي الشافي و بنفس القدر اخوتكم في الشمال يعانون الأمرين من فساد الحكام ومن لف حولهم

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..