حالة إحباط…!

في أزمنة مضت، كنا حينما نسمع الشادي ? أي شادٍ ? يترنم برائعة “سوداني الجوة وجداني بريدو”، تظللنا غواشي الوطنية الصادقة، وتنساب في خلايانا قشعريرة عفوية، نطمئن معها بأن الوطن يجري فينا مجرى الدم في العروق، فتنشرح دواخلُنا ويهدأ فينا القلق.
وكان الواحد منا حينما يستمع إلى رائعة يوسف مصطفى التني، “في الفؤاد ترعاه العناية.. بين ضلوع الوطن العزيز”. يحس بقيمة هذا السودان الجميل، ويطرب لكونه ينتمي إلى هذا البلد طِباعاً وجغرافيا. أما حينما يصدح العطبراوي، برائعة “أنا سوداني”، فإن “الهوشة” توشك أن تأخذ من الجميع كل مأخذ. وتكاد الغبطة تملأ جوانح كل المستمعين زهواً، حتى أن الفخر يوشك أن يطفر من العيون.
الآن تغيَّر الواقع كلياً، ولم يعد السودان هو ذاته، ولم تعد تلك الأحاسيس حاضرة بذات الدرجة في وجدان الكثيرين من أبناء بلادي، بل إنها غابت كلياً عن آخرين. ليس لأن أسباب الفخر بهذا البلد قد زالت، ولا لأن دواعي المباهاة بالسودان قد انتفت، وإنما لأن السَّاسة عبثوا بهذا البلد حتى أوردوه موارد الهلاك. لذا لم يعُد غريباً أن يخرج إلينا أحدهم في سلوك غير معافى، ويقوم بتحوير الأغنية، ويدندن بـ”سوداني البرة وجداني.. نسيتو”. فهل بعد هذا يُلام أحد إن أرسل اللعنات تباعاً على الساسة في السودان بلا استثناء..؟!
ومما يُثير الأسى في النفوس، أن حالة الجفوة بين بعض المواطنين وبين الوطن، آخذة في التمدُّد، ذلك أنها محكومة بعلاقة طردية مع تصرفات السَّاسة وألاعيبهم الصغيرة. فكلما زادت أخطاء السياسيين وتصرفاتهم الصبيانية، تعمَّقت الأزمة وزادت نسبة الوجع في نفوس المواطنين، وبالتالي تزيد الجفوة تجاه الوطن، ويزيد الإحساس بالغربة.
صحيح أن تناقص الشعور بحب الوطن سلوكٌ شاذ، لكنه ? للأسف ? يعبِّر عن الدرجة التي وصلنا إليها في التعاطي السياسي. فالأحزاب متهمة ? عند البعض – بأنها لا تفرِّق بين معارضة الوطن ومعارضة المؤتمر الوطني. والحزب الحاكم هو الآخر مُدان بإجماعٍ كاسح، بأنه يحتكر الوطنية لنفسه، ويهبُها لمن يُريد، ويحجبها عن من لا يريد. بل إنه قام ? في سلوكٍ شاذ ? بوضع تصنيفات لا تقوم على أساس، وتقوم على الميل القلبي والتلاقي السياسي فقط، وطفق يوزِّعها على الأحزاب، قُرْباً وابتعاداً من الوطني. وهو ما أدى إلى نشوء غُبْن على المؤتمر الوطني، وبالتالي الوطن، ذلك أن الحزب الحاكم يوشك أن يتماهى تماماً مع الدولة ويتلاصق معها كتوأم سيامي.
الثابت، أن هذا الشطط السياسي بين الأحزاب، أرخى رابط العاطفة والانتماء للوطن، في عقول وقلوب الكثيرين. خصوصاً بعدما غَشِيَت المشهد السياسي شحناتٌ سالبة، أدَّت إلى “كهربة” المزاج العام، فصار عديد من السودانيين لا يأبهون تماماً للوطن، وتبعاً لذلك، أصبح المواطن يعيش مجبراً بين حجرَيْ رحى، هما المؤتمر الوطني وأحزاب المعارضة. هو في ذلك ? أي المواطن – لا يبدو مهتماً بمواقف أيٍّ من الطرفين، بعدما اختار العُزْلة بديلاً للتفاعل مع برنامج تلك الأحزاب الحاكمة والمحكومة.
الصيحة